في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» السينمائي الفرنسي، بدا فيلم «المهاجرة» للأميركي جيمس غراي واحداً من الأفلام القليلة التي كان النقاد والهواة والمهتمون في شكل عام ينتظرونها بتشوق ولهفة. والحال هي هكذا دائماً ومنذ سنوات مع كل فيلم جديد يُعلن عن عرضه لغراي الذي يُنظر اليه عادة على انه واحد من ابرز اصحاب الوجوه البارزة في الموجة الأجدّ من السينما الأميركية. وذلك بالتحديد منذ فيلمه الأول الذي أطلّ به على العالم وكان في الخامسة والعشرين من عمره عام 1994، «ليتل أوديسّا». بعد ذلك، طوال العشرين عاماً التالية تقريباً، راح غراي يحقق افلامه تباعاً بشكل شبه منتظم، ليتكون لديه متن من أفلام عرفت، في أحيان كثيرة، كيف تجتذب النقاد وجمهوراً من المتفرجين لا بأس به ولا سيما في المهرجانات وعلى رأسها «كان» الذي عرض له أفلامه الأخيرة ولكن من دون ان يعطيه أية جوائز رئيسة. أكثر من خيبة في هذا العام، ومع «المهاجرة» كان معجبو سينما غراي يأملون في ان يكون فوز ما من نصيبه في «كان»، بل راهن كثر منذ عُرض الفيلم في الأيام الأخيرة للمهرجان، على ان تذهب جائزة أفضل تمثيل الى بطلة الفيلم النجمة الفرنسية ماريون كوتيّار، من ناحية لأنها في رأي كثر، قدمت أداءً مميزاً في الفيلم، ومن ناحية ثانية كتعويض لها على خذلانها في دورة العام الفائت من المهرجان نفسه، وعدم مكافأتها، عن الأداء الصعب والمميز الذي قدمته في «العظام والصدأ»... غير انه كان على كوتيّار ان تعود هذه المرة ايضاً، من التباري خائبة الرجاء. وكذلك كان نصيب فيلم «المهاجرة» ليخيب أمل غراي بدوره من جديد بعدما كان الشعور نفسه خامره في العام 2007 مع «الليل لنا» ثم في العام 2008 مع «عاشقان»، ناهيك بخيبة أمله الإضافية، إذ مرّ في «كان» نفسه مرور الكرام من دون إثارة إعجاب أحد، ذلك الفيلم الفرنسي «روابط الدم» الذي لم يكن مخرجه بل فقط كاتب السيناريو له. مهما يكن من أمر، قد يصح القول منذ الآن، انه لئن كانت خيبة غراي مبررة قبل اعوام في صدد «عاشقان» الذي كان حقاً فيلماً جميلاً وقوياً لا يثير انقساماً كبيراً بين النقاد، فإن الحال لم تكن كذلك بالنسبة الى «المهاجرة»... فهذا الفيلم اثار ومنذ عرضه «الكانيّ» نقاشات حادة وأعلن كثر من النقاد مباشرة بعد عرض الفيلم خيبة أملهم إزاءه. وكان هذا ما دفع جيمس غراي الى التعامل مع النقاد والصحافيين بقلة أدب في المؤتمر الصحافي الذي تلى العرض... إذ استشعر ان الإشارات بدأت تلوح عن عدم تمكن الفيلم من توفير إجماع لدى لجنة التحكيم. وهكذا كان الأمر بالفعل... غير ان هذا كله لا يمنع المتفرج من ان يرى في «المهاجرة» فيلماً مميزاً وساحراً في بعض لحظاته على رغم اتسامه بطابع ميلودرامي يبدو اليوم شديد العتق، ناهيك باتسامه بكلاسيكية يرى كثر ان السينما الحديثة قد تجاوزتها. فإذا اضفنا اليها بعده الأخلاقي الذي يكاد يكون «وعظيّاً» بين ثناياه وسط عالم سينمائي يزداد انفتاحاً وتهاوناً – بل «إباحية» وفق البعض، ولا سيما كما رُصد الوضع في تلك الدورة نفسها من مهرجان كان – يمكننا ان نفهم ليس فقط المواقف السلبية تجاه الفيلم وعجزه عن ان يبدو وكأنه يقدم جديداً... بل كذلك وفي الوقت نفسه سرّ السحر – «اللامهرجاني» و «اللاحداثي» – الذي استشعره متفرجون كثر أمامه. الشقيقتان والشرير فالفيلم يعود أصلاً في أحداثه الى آخر سنوات الربع الأول من القرن العشرين، وبالتحديد الى نيويورك التي كانت في ذلك الحين مقصد ومحطّ آمال مئات ألوف البائسين المهاجرين القاصدينها من شتى أنحاء العالم. ومن هنا كان من الطبيعي ان تبدأ الأحداث في ستيتن آيلند وفي شكل اكثر تحديداً مع صورة تمثال الحرية وما يفترض به ان يرمز اليه... ليتركز مسار الفيلم إثر ذلك على حكاية ايفا، الحسناء البولندية المهاجرة الى العالم الجديد في رفقة اختها، لأسباب لم يجد الفيلم مبرراً للتوقف عندها. المهم انه في الوقت الذي تُقبل فيه ايفا من قبل رسميي الميناء، يُرفض دخول أختها، بل تؤمر هذه بأن تبقى في الحجر بسبب إصابتها بالسل. ومن هنا تبدأ مأساة ايفا التي سرعان ما تلتقي في الميناء رجلاً يعرض عليها العون فتتلقفه هي، على رغم حذرها، كفاعل خير، فيما ندرك نحن انه ليس اكثر من رجل صفقات صغير يدبّر عيشه في مثل هذه الظروف مستغلاً حاجة الآخرين وبؤسهم... ولسوف ندرك لاحقاً انه في الحقيقة لا يعدو كونه قواداً ولصاً صغيراً. غير ان هذا لن يمنع ايفا من القبول بمساعدته لها وتدبير عمل يقيها غائلة الجوع كما يمكنّها من جمع بعض مال يساعدها على إحضار اختها من الحجر... حين تسمح السلطات وحالتها الصحية بذلك. والحقيقة ان مسار الفيلم منذ هذا التقديم الأول للشخصيات الأساسية فيه، انما هو حكاية العلاقة المتأرجحة، ثم المدمّرة بين ايفا والقواد (يقوم بدوره في أداء رائع، جواكيم فونيكس الذي مثل حتى الآن في معظم أفلام غراي). والحقيقة ان نظرة إنصاف متمعنة الى هذا الفيلم منذ لحظاته الأولى، سوف تبديه لنا منتمياً كلياً الى عوالم جيمس غراي المعهودة من ناحية الموضوع وقسوة العواطف في شكل خاص، كما من ناحية التركيز على العلاقات العائلية والعاطفية... في هذا السياق يبدو الفيلم وكأنه «انطولوجيا» حاول فيها المخرج/الكاتب ان يلخص عوالم كانت طالعتنا في «ليتل أودبسا» عبر العلاقة بين اخوين احدهما قاتل ينتمي الى عصابة، وهي الأجواء نفسها التي نجدها في «لنا الليل» وإن كان الموضوع يأتي هذه المرة في إطار عائلي اوسع كما في فيلم غراي الثاني «الياردات» (2000)... وفي هذا السياق، إذا كان «عاشقان» قد اتى مختلفاً، مع انحصاره بدوره في أجواء عائلية، ليتمركز من حول علاقة غرامية مدمرة، فإن هذه العلاقة هي نفسها التي نجدها في «المهاجرة» حيث الحب والكراهية والحقد والنفور والشوق والفراق أمور تتوالى بين ايفا وصاحبها... حيث في سياق الفيلم ستعيش تلك العلاقة لحظات حب ورغبة حقيقية تتقاطع مع لحظات نفور وخيانة. سترتبط ايفا بغيره وسيتاجر هو بها اكثر وأكثر. ستسرقه وسيستغلها. وهي ستهرب منه وفي لحظات ستشي به الى البوليس. لكنهما في لحظات اخرى سيلتقيان كعاشقين حقيقيين يدمران بعضهما بعضاً ويدافعان عن بعضهما بعضاً. والحقيقة ان ها هنا تكمن قوة الفيلم وقوة كتابته حيث عرف غراي كيف يجعل ما يشبه لعبة السيد والعبد تتوالى بينهما في شكل يحيل، الى حد ما الى اجواء صحيح انها نيويوركية خالصة هنا، لكنها في الوقت نفسه تبدو منتمية الى فيينا اوائل القرن العشرين وميلودراماتها والخيانات التي تعبق في صلب العلاقات الحميمة فيها. في اختصار، يبدو الفيلم هنا، وحتى خارج الإطار المعهود من سينما غراي التي تتسم الى حدّ ما بميلودرامية «عائلية» في أحيان كثيرة، يبدو منتمياً الى اعمال مثل اوبرا «لولو» لآلبن برغ، كما الى ادب شنايتزلر (الذي اقتبس ستانلي كوبريك تحفته الأخيرة «عيون مغمضة على اتساعها»)، ومسرح هوفمنشتال... الى تلك الأجواء التي كانت توصف بالكابوس السعيد والتي عرف بعض فناني اوروبا الوسطى – مثل دوغلاس سيرك وفرانك بورزاغي – كيف ينقلونها معهم، سينمائياً حين غادروا ديارهم الى العالم الجديد ضاخّين في سينماه عواطف حادة، ومواقف صاخبة وبؤساً لا ترياق له وكوتا وكراهية، لن يفوتنا هنا ان نجدها ماثلة في هذا الفيلم الذي إذ يستعيد هذا كله، مستفيداً في الوقت نفسه من الصور الليلية التي قدمها مدير التصوير المميز داريوش غنج، ما اضفى على «المهاجرة» سحراً عتيقاً، فكان من الواضح ان اتى الفيلم اجمل «شكلياً» من ان يتماشى مع الأذواق السينمائية الجديدة وأكثر بساطة – وربما قال البعض: سذاجة – من ان يتلاءم مع هذه الأزمان التي نعيش فيها. ترى، أفلا يمكن هذه الفرضية المزدوجة ان تذكرنا في النهاية هنا بأن ماريون كوتيّار نفسها بدت في «المهاجرة» اكثر جمالاً وقوة من ان تلفت الانتباه؟!