من المؤكد ان الأمور لم تجر على النحو الذي سنحاول وصفه في السطور التالية، لكن الفرضية تبدو أكثر منطقية من ألا نوردها خلال حديثنا هنا عن الفنانة الفرنسية بيرينيس بيجو الفائزة بجائزة التمثيل النسائي في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» عن دورها المميز في جديد الإيراني أصغر فرهادي «الماضي». تفترض الحكاية انه من بين جميع الحاضرين في حفل اختتام المهرجان حيث أعلنت النتائج، كانت ثمة سيدة واحدة، على الأقل، شعرت بغصّة حين أعلن ستيفن سبيلبرغ فوز بيجو بالجائزة. كانت هذه السيدة الفنانة الفرنسية ماريون كوتيّار، التي لا شك شعرت بأن الجائزة تحيد عنها من جديد هي التي كانت، مرة أخرى بعد دنوّها منها سابقاً عن دورها الرائع في «عظم وصدأ»، تتساءل لماذا ثمة دائماً من يُفضّل عليها في اللحظات الأخيرة. فهذه المرة ايضاً كان دور كوتيّار في «المهاجرة» من إخراج جيمس غراي، يشير اليها كواحدة من قلة رُجّح فوزهن حقاً... غير ان «المشكلة» ليست هنا تماماً، المشكلة هي ان ماريون كانت، قبل بيرينيس بيجو، اختيار أصغر فرهادي نفسه لدور ماري في «الماضي»، لكنها تملصت في اللحظات الأخيرة ليتم اختيار بيجو بدلاً منها. ونفترض الآن ان هذا الأمر كان لصالح بطلة «الفنان» التي كان كثر اسفوا قبل عامين لعدم فوزها بجائزة أفضل ممثلة في ذلك الحين. وها هو فرهادي اليوم يمنحها، كبديلة، دوراً عوّض عليها... ولا شك ان غصة ماريون كوتيّار التي نفترضها تتعلق تحديداً بشيء من الندم ساورها لتفضيلها العمل مع الأميركي على العمل مع الإيراني. مهما يكن من أمر، كان واضحاً منذ لقطات بيرينيس بيجو الأولى عند مفتتح «الماضي» انها لن تخرج من المولد من دون حمّص هذه المرة. بدا واضحاً انها تحت إدارة فرهادي لا تقل روعة أداء عما كانته تحت إدارة زوجها ميشال حازانوفتسيوس في «الفنان»، مع فارق أساس: لئن كانت مثلت صامتة تماماً في «الفنان» – لأن الفيلم نفسه صامت كما نعرف – فإنها في «الماضي» أطلقت العنان لقدرتها على الكلام، مع ان المخرج نفسه لا يفقه كلمة من لغة موليير... وكانت هذه «أعجوبة» أخرى من أعاجيب هذا المخرج الإيراني الذي بدأ يفرض حضوره بقوة منذ فيلمه الأول... ولم يصوّر قبل «الماضي» اي فيلم خارج بلده، وحتى حين صوّر «الماضي» في ضاحية باريسية، لم يدّع انه معارض او انه يريد تغيير الحكم في طهران او انه مضطهد. وأكثر من هذا، كان لافتاً ان فرهادي تمكن بقوة إدارته لممثليه، من ان يحول ماري نفسها (بيجو) الى امرأة تشبه اية سيدة ايرانية مع ان الدور لا يتطلب ذلك. فهي في الفيلم فرنسية تزوجت ايرانياً ذات مرة، ثم تركته دون ان يكون زوجها الأول، فالأول بلجيكي كما يبدو انجبت منه فتاتين، وها هي اليوم تطلب من زوجها الإيراني ان يعود بعد غياب اربع سنوات كي يطلقها رسمياً لأنها على وشك الزواج من مهاجر عربي له هو الآخر ولد صغير من امرأة تعيش ايامها الأخيرة وهي قابعة في المستشفى في غيبوبة بعد ما سيتبين لنا لاحقاً انه محاولة انتحار. تشغل ماري مكان المركز في كل هذه التركيبة العائلية. ويمكن المرء ان يتصوّر صعوبة الدور وتركيبيّته... وبالتالي يمكنه ان يفهم بسهولة تفضيل المحكمين لأداء بيرينيس المركّب هنا، على أداء ماريون كوتيار البسيط في «المهاجرة». منذ اللقطات الأولى بدت بيرينيس بيجو مسيطرة على الدور، حتى وإن لم يكن مطلوباً منها ان تسيطر على الوضع. فهذه السيطرة الأخيرة تركها الفيلم للزوج الإيراني العائد بعد غياب (علي مصطفى)، جاعلاً من ماري فاعلاً وضحية في الوقت نفسه، ومحوّلاً الصراع الذي تخوضه في الفيلم الى صراع مع ابنتها المراهقة. واللافت هنا ان بيرينيس قالت في تصريحات صحافية، انها فضلت ألا تخبر أصغر فرهادي إلا لاحقاً بأن لها هي نفسها في حياتها العائلية الحقيقية وضعاً شبيهاً بوضع ماري. غير انها لم تكن في حاجة الى هذا التأكيد كي تمعن إجادة في دورها الجديد هذا. فهي منذ أطلت في «الفنان» بدت مشعة ذات حضور قوي، ما اعاد الى أذهان المتفرجين بشكل مباغت حضورها القوي ولو في العدد القليل من الأفلام التي كانت مثلتها قبل «الفنان» ولم يرق أيها الى مستوى مهرجاني او جوائزي، مثل «افضل امل نسائي» و«الفارس» و«24ساعة من حياة إمرأة» وبخاصة «القاهرة وكر الجواسيس» تحت ادارة زوجها.