يترك الشهر الفضيل في نفوس الصائمين الأثر الكبير على مر الأعوام، إذ لا تخلو حياة كبار السن من ذكريات صاحبتها «علْقة» ساخنة، كشفت عن سوء تصرفهم من دون قصد وكانت حافزاً لهم على الصيام بقية حياتهم. لكنها تظل دروساً وحكايات وعبرات يقول أبطالها إنها تصلح لأن تدرج في كُتب التاريخ لتستفيد منها الأجيال. يقول أبو محمد: «كنت أختفي لأتناول جرعة من الماء، ويعترف عبد الكريم بأن أكله لتمرات الصائمين حرمته متعة الصيد، وحبات التين كانت سبباً في عقاب أبو عماد ورفاقه. وأبو جمال الذي كان يحتال على راعي الحلال تعلم درساً لم ينساه. ويستهل أبو محمد الحديث عن ذكرياته وهو يضحك: «كنت أعمل في مجال البناء، وكان ذلك قبل 55 عاماً ، كان النهار حامياً والطقس مشتعلاً والمنزل الذي نعمل به عامراً بالنخيل والرطب الطازجة»، يستطرد في وصف قصته: «كنت أختفي كل خمس دقائق لأتناول جرعة من الماء وقطعةً من الرطب المتساقطة أرضاً، حتى افتضح أمري كبير المقاولين في يومٍ أعتبره «أبيضاً» في حياتي، لأنه كان ختام لعبتي مع الصوم وبدايتي مع التعامل معه على أنه فرضٌ واجبٌ أقوم به على قناعة». أما عبد الكريم فقد كان صياداً ماهراً لكنه في رمضان اعتاد على صيد إفطار رفقائه خلسة. ويقول: «اعتدنا الخروج للصيد قبل أذان المغرب بساعتين، وكانت وظيفتي في رمضان نقل الأمتعة وشباك الصيد وتحميل التمر والماء والزاد للصائمين، ولكني اعتدت التهام نصف الكمية في الطريق قبل وصولي، لكن الرفقة كشفوا أمري لأن المائدة كانت دائماً ناقصة، وكنت أحلف اليمين أنني لم أتناول منها شيئاً لكن لم يصدقني أحدٌ، إذ أن الأمر ظل يتكرر يومياً وأصبح «الاختلاس» عادة طوال الشهر». ويسترسل في حديثه: «ذات يوم تفاجأت أن كبير الصيادين كان واقفاً خلفي بعصا خشبية وأنا منهمك في تناول حبات التمر. وقال لي ضاحكاً: «سأمنحك تمرتي أيضاً لكن اذهب ولا تعد إلا بعد رمضان فأنت لست كفؤ للعمل في هذا الشهر»، وما زالت تلك الكلمات ترن في أذني حتى الآن وعلمتني درساً لن أنساه». ويربط أبو عماد حكايته في رمضان بالتين وقال: «كنت بصحبة رفاقي، وكان عمري حينها 16 عاماً، وصلنا إلى أرض فيها نخيل وهي بعيدة عن الأحياء السكنية، لم نكن نصدق ما رأيناه، كان النهار مشتعلاً في تمام ال12 ظهراً، وحينما دخلنا إلى النخل وجدنا كماً كبيراً من أشجار التين، قطعنا منها ما استطعنا وأكلنا حتى شبعنا وامتلأت بطوننا منه، وفجأة اكتشف أحدنا أن صاحب النخيل طالعاً في شجرةٍ». وأضاف: «لكن الأمر لم يمر بذات السهولة التي توقعناها، إذ وجدنا صاحب النخيل ينتظرنا أمام منزلنا يشتكي لوالدي الذي أكلت منه علقة ساخنة، ومن يومها لم أعد أفطر في رمضان وكان درساً لن أنساه، ولا زالت أثاره باقية في حياتي». ويعتبر أبو جمال أن حياة صباه في رمضان كان فيها قصص يجب أن تُدرس للأجيال أما كيف؟ فيقول: «كنا نعين جارنا في رعي الغنم، نقضي معه النهار في مزرعته بين خرافه وأغنامه وأعلافه ومواده الغذائية، واعتدنا لأعوام ثلاثة انتظار عودته قبل أذان المغرب بساعة لنطلب منه أن يمنحنا شيئاًَ من الفواكه والخضراوات بما قيمته ريال، وكان يطبطب على أكتافنا ويشيد برجولتنا وأمانتنا ويفتخر بأننا نصوم ونعمل ونكدح طوال النهار لأجل تأمين لقمة عيشنا». يستطرد ضاحكاً: «على خلاف عادته رجع صاحب الأغنام قبل موعده، ووجدنا منهمكين في سرقة ما لذ وطاب ونحن لا نعلم بأنه كان يرانا، وحين حلَّ موعد مغادرتنا طلبنا منه طلبنا المعتاد، أن يزودنا بما لذ وطاب كإكرامية بما قيمته ريال واحد، وما كان منه إلا أن شتمنا وهدد بعدم عودتنا وقال لنا: «ألم يكفي ماسرقتموه؟». ويضيف أبو جمال إن: «الصيام فريضة واجبة وقناعة تترسخ في مخيلة الإنسان، وموقف صاحب الأغنام معنا علمني درساً لم أنساه، وجعلني أخشى الله في كل مكان فإن لم أكن أراه فإنه يراني».