ودع عمد الاحياء في مكةالمكرمة رمضان المبارك بكثير من الدموع والحزن مستعيدين الكثير من الذكريات عن رمضان الزمن الجميل ويقول عدد من العمد القدامى ممن عاصروا شهر رمضان المبارك قبل دخول الكهرباء، ووسائل الترفيه الحديثة، إنهم كانوا يعيشون رمضان بروحانية كبيرة، رغم قسوة الحياة في ذلك الزمن الجميل. كما كان للمكيين عاداتهم وتقاليدهم في هذا الشهر، إذ كانوا يعملون طوال اليوم تحت أشعة الشمس الحارقة في أعمال البناء بالحجر والطين، كما كانوا يحرصون على تناول إفطارهم اليومي داخل المسجد الحرام، والحضور قبل موعد الإفطار بساعة لأداء الطواف، وقراءة القرآن الكريم. «المدينة» قامت بجولة ميدانية على عدد من عمد الأحياء بمكةالمكرمة لاستطلاع ذكرياتهم عن رمضان الماضي، وعادات وتقاليد أهالي مكة، ومظاهر الحياة في هذا الشهر الكريم. والتقت مع عمدة حي شعب بني عامر هيزع العبدلي الشريف، وعمدة حي المسفلة عبدالرحمن بن محمد الشنقيطي، وعمدة حي المنصور فوزي بن محمد نور الهاشمي، وعمدة حي الهجلة محمود سليمان بيطار، وعمدة أجياد سابقًا طاهر جميل بغدادي. وفي البداية قال العمدة هيزع العبدلي: اعتاد أهالي مكةالمكرمة في الزمن الجميل على معايشة الشهر الكريم منذ دخول شهر شعبان، فترى الناس كبارًا وصغارًا فرحين مستبشرين، وخلال هذا الشهر المبارك يزينون منازلهم، ويرتادون مراكيزهم، والأطفال ألعابهم البدنية ومن أشهرها (المدارية)، بالإضافة إلى تبريد المياه بالمشربيات والدوارق المصنوعة من الفخار والمبخرة بالمستكي، وملئها بماء زمزم وتغطيتها بالشاش في الهواء الطلق لتبرد مع أذان الظهر حتى عند ما يحين الإفطار تكون باردة يشرب منها الصائمون، نظرًا لانعدام وسائل التبريد الحديثة لعدم وجود خدمات الكهرباء آنذاك. ولا زلت وأنا صغير أذكر تلك المشربات والدوارق المعبأة بماء زمزم وهي تجهز أمام المنازل في عصاري رمضان المبارك، ولازلت أستعذب طعمها حتى الآن. دوي المدافع وتطرق العمدة العبدلي إلى كيفية معرفة الناس بحلول وقت المغرب قديمًا، وذلك عن طريق دوي صوت المدافع في جبال مكة، ومن أشهرها جبل السليمانية الواقع بين المعلاة وجرول، وكان الناس يسمعونه جيدًا في جميع أحياء مكةالمكرمة التي كان لا يزيد عددها على (15) حيًّا من أشهرها أحياد والقشاشية وسوق الليل والشامية والقرارة والنقا وشعب بني عامر وشعب علي والمسفلة والمعابدة وجرول والعتيبية، ونظرًا لعدم وجود أصوات سيارات أو مكيفات كان صوت المدافع يسمع بوضوح حتى في القرى القريبة من مكةالمكرمة، وكان الناس يشاهدون لحظة إطلاقه لعدم وجود العمائر التي تحجب الرؤية كما هو حاصل اليوم. وكان هناك أشخاص يُقال لهم (المنادون) يمرون في الشوارع، ويضربون الطبول، وينادون بأعلى أصواتهم بأن يوم غدٍ هو أول أيام شهر رمضان، أو أول أيام شوال. كما يصعد مؤذنو المساجد إلى المنارات للمناداة بأعلى أصواتهم عن دخول رمضان أو العيد. وعندما ظهر الراديو كان قليل من الناس يمتلك هذا الجهاز، ونجد في الحارة الواحدة شخصًا ممّن وسع الله عليهم وامتلك هذا الجهاز يقوم بإشعار الناس بدخول الشهر الكريم، وهكذا يتم نشر الخبر من بيت إلى بيت، ومن حارة إلى حارة. وعن الوسائل التي كان يستعين بها أهل مكةالمكرمة قديمًا على حرارة الجو قال الشريف العبدلي كان الناس في الظهيرة يعمدون إلى غمس أغطية الشراشف في الماء ليحصل لها شيء من البرودة قبل ما تجف، وكلما جفت يتم تكرار غمسها في الماء، كما كانوا يستعينون بالمراوح اليدوية. وقال العمدة عبدالرحمن الشنقيطي: منذ إعلان قدوم الشهر الكريم يبدأ الناس في تبادل التهاني، والذهاب للمسجد الحرام قبل أذان المغرب لأداء الطواف وقراءة القرآن الكريم، وتناول الإفطار المكون من حبات التمر وجرعات من ماء زمزم وبعد أداء صلاة المغرب يعودون لمنازلهم لاستكمال إفطارهم. وتبدأ ربات المنازل في إعداد وتجهيز مائدة الإفطار منذ صلاة العصر وعادة كانت تتكون من شربة الحب والسمبوسك والتمر والعصيرات والحلويات المصنوعة في المنازل، ومن العادات المستحبة تبادل الأطعمة بين الجيران فقبيل المغرب بساعة تشاهد الصبيان وهم يحملون الصينيات جمع (صينية) وهي محملة بما لذ وطاب من الأطعمة ويذهبون إلى منازل جيرانهم وأقربائهم ولذلك تجد مائدة الإفطار لدى كل أسرة تحمل العديد من المأكولات المتنوعة والطبخات اللذيذة. روحانية رمضان أمّا العمدة فوزي بن الهاشمي فقال لازلت أتذكر عندما كنت صغيرًا مظاهر شهر رمضان المبارك، حيث كان الاهالي يحرصون على الذهاب للمسجد الحرام، وتناول الإفطار فيه، ومن ثم العودة للمنازل لاستكمال تناول طعام الإفطار مع الأسرة. كما أن أهل مكةالمكرمة اعتادوا على تفطير الصائمين داخل المسجد الحرام، فتراهم مع أذان المغرب يحملون الأوعية المليئة بحبات التمر الفاطر يعرضونه على الصائمين في المسعى، وصحن المطاف، وأروقة المسجد الحرام قبل أن يفطروا هم، وذلك ابتغاء الأجر والمثوبة من الله عز وجل لعظمة إفطار الصائم.. كما جاء في الحديث الشريف. كما يحرص أهالي مكة على أداء مناسك العمرة في هذا الشهر الفضيل أكثر من مرة عنهم وعن والديهم، ولرمضان نكهة خاصة متميز به لا تجدها في أي مدينة أخرى غير المدينةالمنورة، ففي هاتين المدينتين المقدستين تشعر بعظمة هذا الشهر وروحانيته، وهي تغمر جميع جوانحك وتجعلك تعيش في عالم آخر من الطمأنينة والخشوع واستشعار عظمة الخالق عز وجل، وسماحة هذا الدين الإسلامي الحنيف. مظاهر أكثر جمالًا وقال العمدة طاهر جميل بغدادي عمدة حي أجياد (سابقًا)، وأحد أعيان ووجهاء العاصمة المقدسة رمضان جميل: في السابق كان لرمضان مظاهر أكثر جمالًا في مكةالمكرمة، واستعدادات مبكرة منذ شهر رجب رغم قسوة الحياة، وعدم وجود وسائل الترفيه الموجودة حاليًّا. وكانت مياه الشرب تبرد من المشربيات الفخارية منذ الظهر وتغطى بالشاش وتبخر بالمستكي، كما توضع في القرب المصنوعة من جلد الماعز، كما كنا نربي الصغار على الصيام وتعويدهم عليه منذ المرحلة الابتدائية.. ففي الصف الثاني الابتدائي نطلب من الطفل أن يصوم إلى الظهر، وفي الصف الثالث إلى العصر أول الشهر، وفي الصف الرابع نطلب منه أن يصوم يومًا ويفطر يومًا، مع تخصيص مكافأة إن صام أيامًا أكثر يأخذها مع العيدية. ولرمضان في مكةالمكرمة طابع روحاني جميل لا مثيل له. قسوة الحياة وقال العمدة محمود سليمان بيطار عمدة محلة الهجلة: عاصرت شهر رمضان المبارك في الماضي في فترة قبل وجود وسائل الترفيه فكنا نستعين بالمراوح الكهربائية والمكيفات الصحراوية التي تعبأ بالماء، فالكهرباء كانت موجودة في مكةالمكرمة -حرسها الله- وقد كنا نعيش بحمد الله وتوفيقه على عظيم نعمه وجزيل فضله رغم قسوة الحياة، وكان لرمضان طعم جميل وروحانية لا مثيل لها يفرح بها الكبار والصغار، ولم يكن هناك إسراف في شراء المأكولات وطبخها كما هو حاصل اليوم. فالإسراف مذموم في كل شيء، وكذلك التبذير، ونحن لا نطالب الناس ألا يشتروا ما لذ وطاب من الأطعمة ولكن بقدر الحاجة.