حدث ذلك يوم 22 تشرين الأول (أكتوبر) 1956، أثناء الإعداد للهجوم على سيناء والسويس من قِبَل إسرائيل وفرنسا وبريطانيا. وحول هذا الموضوع يقول موشيه ديان في مذكراته (ص 269) ما يأتي: ضم الاجتماع الأول قرب باريس الوفد الإسرائيلي المؤلف من بن غوريون وشيمون بيريز وأنا. وعن الجانب الفرنسي حضر رئيس الوزراء غي موليه، ووزير الخارجية بينو، ووزير الدفاع بورجيه - مونوري. بعد الاتفاق على الخطة العسكرية، قال بن غوريون إنه في صدد عرض مشروع سياسي متكامل يتعلق بمستقبل الشرق الأوسط، والتغييرات المطلوبة لإراحة إسرائيل وتعزيز استقرارها. ولما أصغى أعضاء الوفد الفرنسي، أكمل يقول: إن الأردن لا يُعتَبَر دولة مستقلة قابلة للحياة والاستمرار. وعليه، أرى أن مساحة أرضه يجب تقسيمها بين العراق الذي يُمنح الجزء الواقع شرق نهر الأردن، بينما تضم إسرائيل الجزء الواقع غرب النهر. وهنا تدخل غي موليه ليسأل باستغراب: ولماذا يُمنح العراق جزءاً من الأردن؟ وأجاب بن غوريون موضحاً: مقابل التعهد باستيعاب اللاجئين الفلسطينيين، فالعراق بلد غني بالنفط والمياه. وبسبب ضآلة عدد سكانه، فإن مساحته الجغرافية مهيأة لتأمين فرص العمل لآلاف الشبان. خصوصاً أن مناخه الصحراوي سيكون مألوفاً لدى اللاجئين الذي يتكلمون اللغة ذاتها ويمارسون الطقوس الدينية ذاتها. وربما تكون صحراء سيناء، التي نستعد لاحتلالها، هي الامتداد الطبيعي لسكن اللاجئين. وكما طوّر مشروع «الكيبوتز» الصحراء المجدبة، فإننا على استعداد لنقل خبراتنا إلى سيناء في حال وافق الفلسطينيون على هذا الحل. ثم انتقل بن غوريون في حديثه إلى رسم مستقبل لبنان، فقال: إن الأقضية الأربعة التي تشكل غالبية إسلامية يجب إرجاعها إلى سورية بحيث يبقى هذا الوطن موئلاً للمسيحيين. بعد مرور 56 سنة على ذلك التاريخ، تبخرت أحلام بن غوريون مع كل ما عرضه خلال تلك الليلة من مشاريع وهمية. واضطر آخر الأمر إلى سحب قواته من سيناء بالاشتراك مع الفرنسيين والبريطانيين، بناء على أوامر الرئيس آيزنهاور. وكان من الطبيعي أن تتحطم فكرة الشرق الأوسط الجديد على أعتاب سلسلة حروب إقليمية كان للعراق منها النصيب الكافي لتمزيق وحدته ونسيجه الوطني. التطورات اللاحقة أضاعت أمل إسرائيل في حل قضية اللاجئين عبر مشاريع الاستيعاب. كما أضاعت مغامرة شارون سنة 1982 كل أمل بإنشاء دولة مسيحية في لبنان. ولم يبق من مشاريع التآمر سوى مشروعين: الأردن هو فلسطين... وصحراء سيناء هي وطن الفلسطينيين، مقيمين ولاجئين. بالنسبة للمشروع الأول، فإن سياسة الولاياتالمتحدة لا تقبل بهذه التسوية، كونها ترى في الأردن جداراً واقياً يمنع وصول إسرائيل إلى حدود دول النفط العربية. وقد تدخلت مراراً للحؤول دون تحقيق هذا الخيار الذي سوقه شارون تحت شعار: «الأردن هو فلسطين». يبقى الخيار الثاني الذي يعرض صحراء سيناء كوطن بديل للدولة الفلسطينية، الأمر الذي يتفق عليه كل زعماء إسرائيل. وهذا ما أثبته الكاتب أفي شلايم في مؤلفه التاريخي الموثق «الحائط الحديد». وقد كتبه خصيصاً لكشف الأكاذيب والأحابيل التي يستخدمها زعماء إسرائيل من أجل نسف مختلف مشاريع السلام، لا فرق أكانت أميركية أم عربية أم فلسطينية. وفي الفصل الأخير من الكتاب، نشر شلايم محاضر الجلسات والمؤتمرات، مُظهراً بدقة الأساليب التي يستخدمها المفاوض الإسرائيلي من أجل نسف التسويات. وكل ما يخرج به القارئ من استنتاج منطقي بعد مراجعة الكتاب، هو أن إسرائيل ستظل توظف الزمن لتفريغ الضفة الغربية والقدس الشرقية من سكانها العرب، خصوصاً إذا اعترف الفلسطينيون ب «دولة اليهود» العنصرية. ولكن إنكار الدولة الفلسطينية لم يمنع إسرائيل من الانسحاب من قطاع غزة على أمل أن تتحول إلى النواة لدولة فلسطينية تضم إليها الجزء الأكبر من صحراء سيناء. مع وصول «الإخوان المسلمين» إلى الحكم في مصر، انتعشت آمال «حماس» التي رأت في هذا الانتصار التاريخي الذي تحقق بعد 82 سنة، معيناً للخروج من عزلتها السياسية الخانقة. كذلك رأى إسماعيل هنية، رئيس الحكومة الفلسطينية المقالة، في هذا التطور مشجعاً لإقامة وحدة سياسية وإدارية وعقائدية بين مصر وغزة، نظراً إلى الصلات العميقة التي تجمع بينهما. وقد أعلن عقب اغتيال 16 جندياً مصرياً في معركة جرت يوم 7 آب (أغسطس) السنة الماضية عن استعداده لحماية صحراء سيناء من كل شر. وذكرت الصحف المصرية في حينه أن جماعات إسلامية متطرفة قامت بمساندة «حماس» باقتحام مركز حدودي عند معبر رفح، فقتلت مَنْ قتلت، وطردت فرقة بكاملها. وعلى الفور قرر المجلس العسكري برئاسة المشير محمد طنطاوي إرسال قوة إلى سيناء معززة بالمدرعات، مخالفاً بذلك شروط اتفاقية «كامب ديفيد.» ونجحت تلك القوة في القضاء على «الإرهابيين» خلال فترة قصيرة. بعد ستة أيام قام الرئيس مرسي بزيارة مفاجئة إلى سيناء انتهت بإلغاء المجلس العسكري، وإقصاء طنطاوي، وإعلان نفسه القائد المسؤول عن أي عملية عسكرية تجرى في المستقبل. والملفت بالنسبة لذلك الحادث الدموي، أن تصرف الرئيس مرسي أثار شكوك قيادة الأركان، خصوصاً بعدما أمر بوقف عمليات ملاحقة القتلة، وتجميد كل التحقيقات المتعلقة باغتيال الجنود. تقول مصادر عسكرية مصرية إن الفريق أول عبدالفتاح السيسي، الذي اختاره محمد مرسي وزيراً للدفاع وقائداً عاماً للقوات المسلحة، كان مطلعاً على أسرار معركة سيناء، وعالماً بأهدافها المفتعلة. وربما أقلقه سلوك الرئيس الذي تجاهل مقتل الجنود وأمر بتجميد التحقيقات المتعلقة بعناصر من «حماس.» ويتردد في القاهرة أن ملف ذلك الحادث سيفتح من جديد بهدف إثبات الدور المريب الذي قام به محمد مرسي مع قادة «حماس» في غزة، من أجل خلق نزاع يستخدمه الرئيس للتخلص من طنطاوي والمجلس العسكري. وهذا ما يفسر ظهور جماعة «حماس» في القاهرة بعد 30 حزيران (يونيو)، أي بعد عزل مرسي، واعتقال بعض قادة «الإخوان». هذا الأسبوع، خرجت من مكتب الحزب الجمهوري الأميركي إشاعة مفادها أن الرئيس باراك أوباما وعد الرئيس مرسي ب8 بلايين دولار كثمن للتنازل عن صحراء سيناء بحيث تستعملها «حماس» وطناً نهائياً للفلسطينيين. وفي اليوم التالي، خفض مطلقو الإشاعة الرقم من 8 بلايين إلى 4 بلايين. وفي نهاية الأمر، اضطرت السفيرة الأميركية في القاهرة إلى إصدار تكذيب رسمي باسم البيت الأبيض، يقول إن الخبر مختلق وغير صحيح. ومع استبعاد الخبر، بقي البحث منصباً على الجهة التي أصدرته في وقت يواجه الرئيس مرسي اتهامات تتعلق بشراكته السياسية مع «حماس». ويعتقد آخرون أن «اللوبي اليهودي» في أميركا قد يكون سرَّب هذه الإشاعة خصيصاً لجسّ نبض «الإخوان»، وتنبيه «حماس» إلى وجود خيار آخر على صعيد التسوية السلمية. والمؤكد أن الجهة التي تضررت أكثر من سواها بسبب سقوط حكم «الإخوان المسلمين» في مصر هي «حماس»، ذلك أنها فقدت سندها الأيدولوجي والسياسي والأمني. كما فقدت في سورية معقلها وحضورها، الأمر الذي انعكس في شكل سلبي على علاقتها مع «حزب الله.» وكان من الطبيعي أن توقف إيران مدها بالمال والسلاح. وبسبب تساهل «الإخوان» مع «حماس»، خلال السنة التي حكم فيها مرسي، فإن تهريب البضائع والأسلحة المتطورة عبر أنفاق سيناء كان أمراً سهلاً. بخلاف هذه الأيام التي شهدت تدمير غالبية الأنفاق، الأمر الذي أدى إلى انخفاض مداخيل «حماس» في غزة. ويرى المراقبون أن الضربة التي سُددت ل «الإخوان المسلمين» في مصر، يمكن أن تؤثر في زحف الإسلام السياسي الذي حرك الشرق الأوسط تحت شعار: «الإسلام هو الحل». ومن المتوقع أن يستغل الرئيس بشار الأسد انتكاسة «الإخوان» في مصر، كي يضاعف رهانه على القوى الليبرالية - العلمانية التي تشجعها موسكو في سورية. بعد دخول عناصر «القاعدة» على خط النزاع في سورية، تبدل المشهد السياسي هناك، خصوصاً بعد وصول قوات الدعم التي أمنتها قيادة «حزب الله» لنظام الأسد. ودعماً لهذا الموقف، أعلن السيد حسن نصرالله في خطبته المفاجئة يوم 25 أيار (مايو) الماضي أن الحزب يحمل مسؤولية تضحياته في سورية، ووعد المقاتلين بالنصر، «لأن معركة سورية هي معركة الحزب أيضاً». في الوقت ذاته، أعلنت جماعة «النصرة» عن تحالفها مع «القاعدة» كونهما تشربان من معين واحد. وقد دللت على هذا التحالف بالاشتراك في القتال ضد «حزب الله» شمال إدلب وشرق دمشق. هكذا، انحسرت قوى «الائتلاف» و «الجيش السوري الحر» أمام قوى «القاعدة» التي قررت تعريف النزاع في سورية بروحية مذهبية يعود تاريخها إلى ما قبل 1400 سنة. وبتأثير من تلك العوامل المذهبية، تفسر جماعة «حزب الله» التفجير المروع الذي حدث في الضاحية الجنوبية من بيروت. ومن هذا المنطلق يمكن تفسير مختلف الأحداث التي أقلقت لبنان خلال المدة الأخيرة. فالصواريخ التي أطلِقَت من قرب عاليه ومنطقة بلونة، لم تكن أكثر من وسائل تحريض لإشغال «حزب الله» بحرب مذهبية شيعية - درزية... وشيعية - مارونية. كذلك، لم تكن عملية الاقتحام التي قام بها الجيش اللبناني النظامي ضد الشيخ أحمد الأسير في عبرا سوى معركة بديلة شجعها «حزب الله» وحصد نتائجها الإيجابية، من دون أن يدفع للجيش أي ثمن أمني مريح في البقاع أو طرابلس. ومعنى هذا أن لبنان سيظل يجني، فوق أرضه، ثمار ما تفعله قوات «حزب الله» فوق الأراضي السورية. لهذا السبب فشلت سياسة النأي بالنفس! أما بالنسبة للوضع السياسي في مصر، فإن المبعوث الأميركي وليم بيرنز فشل في إيجاد حل أمني. ولكنه حذر من تكرار خطأ الجزائر سنة 1991 عندما ألغى الجيش الانتخابات بعد فوز «جبهة الإنقاذ». ونتج عن ذلك القرار الخاطئ ما عُرِف بحرب أهلية استمرت عشر سنوات سقط خلالها مئة ألف قتيل. في أول رسالة صوتية وجهها المرشد العام محمد بديع إلى الشعب المصري من ميدان رابعة العدوية، قال إن قرار تنحية مرسي والخطوات التي صاحبت ذلك العمل: باطلة... باطلة... باطلة. ودعا الحزب وأنصاره إلى نسف انقلاب الجيش والنزول إلى الميادين بكثرة. واتهم الفريق أول عبدالفتاح السيسي بأنه أضاع في ثلاثة أيام ما بناه الحزب طوال ثمانين سنة. ورفض أنصار السيسي وصف حركته بأنها انقلاب عسكري على طريقة جمال عبدالناصر. وقالوا إنها مزيج خاص مؤلف من ثورة شعبية وانقلاب عسكري. واعترفوا بأن الضباط عملوا وفق مطالب الشعب، وأن حركة الاحتجاج ضد مرسي جاءت من الجماهير وليس من العسكر. من وراء هذه الخلفية يطل السؤال الأخير: هل يستخدم «الإخوان المسلمون» السلاح والعنف ضد الجيش مثلما فعل «إخوان» الجزائر أم إن الوضع الداخلي سيضطرهم إلى القبول بتسوية غير مقبولة من الجناح المتشدد؟ المحللون في مصر يتوقعون قبول القادة بالتسوية لأنهم شبعوا على مدى 80 سنة سجوناً واضطهاداً وإعدامات. في حين تطالب جماعات ربط الدين بالسياسة بضرورة الحفاظ على النهج التقليدي، ولو أدى ذلك إلى تكرار تجربة الجزائر! * كاتب وصحافي لبناني