سيحسب للأحداث السياسية الملتبسة والمرتبكة والمنفلتة الجارية على أرض مصر حالياً أنها لم تدفع المصريين إلى معترك التحليل السياسي والتفنيد الاستراتيجي المحليين فقط، بل حولت الملايين صوب السياسة الدولية لتتفجر مواهب تحليلية وخبرات تكتيكية على المستوى الكوني بدءاً بالولايات المتحدة التي كسروا أسطورتها ومروراً بروسيا التي استعادوا ستينياتها وانتهاء بإثيوبيا التي أعادوا اكتشافها. اكتشاف مواهب السياسة الدولية وتفجر مهارات الأبعاد الكونية على أرض المحروسة يحدث هذه الأيام على المستوى الشعبي كالمعتاد في أماكن الازدحام وبؤر الشلل المروري ونقاط اصطفاف الطوابير، وهي النقاط التي لم تعد بغية البحث عن وقود أو تيار كهربائي مقطوع أو رغيف عيش منشود، ولكنها نقاط ناجمة عن خطة «الانضغاط» التي وضعتها جماعة «الإخوان المسلمين»، بهدف قيام أنصار «الشرعية والشريعة» بالضغط على جموع المصريين عبر قطع الطرق الحيوية والاعتصام في عرض الشوارع وإغلاق الميادين الكبرى على غفلة. لكن الغفلة الزمنية التي سقط فيها المصريون على مدى عقود سلموا فيها مقاليد سياساتهم الداخلية والخارجية للنظام القائم يفعل فيها وبها ما يشاء ولت. ومنذ «الانقلاب الشعبي» على الرئيس المعزول محمد مرسي، باتت السياسات الدولية والتربيطات الحدودية والقمم الأممية هي الشغل الشاغل للمصريين في الزنقات الشارعية حيثما يقرر أنصار «الشرعية والشريعة» الاحتشاد لإعادة أول رئيس مدني منتخب. شعب مصر المزنوق في شارع رمسيس يتحدث عن التنظيم الدولي للجماعة، وكيف «أننا كنا واقعين في قبضة عصابة دولية أفظع من عصابات المافيا في إيطاليا والياكوزا في اليابان» وكيف أن «الناس بتوع ربنا ضحكوا على الشعب وأقنعوه بأنهم سيحاربون إسرائيل الغاشمة ويقفون في وجه أميركا المتجبرة، لكنهم حاربوا المصريين». سائق الميكروباص أبطل السيارة وأشار إلى من قطعوا الطريق هاتفين «إسلامية إسلامية» وقال بحكمة بالغة: «أليس أولئك من كانوا يستعدون لتحرير القدس قبل أسابيع قليلة؟ إسلامية إيه ياعم؟ كلنا مسلمون! إسرائيل هناك عند صديقه الوفي وليس في شارع رمسيس»، في إشارة إلى رسالة مرسي الشهيرة إلى الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز ذيلها بعبارة «صديقك الوفي محمد مرسي». الرسالة الشهيرة يتحدث عنها ركاب الميكروباص المحتجزون من أجل «الشرعية والشريعة»، فيتساءل أحدهم: «ألم يقتل صديقه الوفي الآلاف من الفلسطينيين ويشارك في قصف سورية من دون أن يشجب أو يندد أو حتى يستنكر؟». وأمام استنكار أحد الركاب لهذا الهجوم ودفاعه الاستفساري: «وماذا تسمي مؤتمر نصرة سورية الذي عقد في ملعب القاهرة؟»، وقبل أن يكمل الراكب المتعاطف المحب للجماعة سؤاله، كان الجميع جاهزاً بالردود الاستنكارية والعبارات الاستهجانية التي انصبت على الراكب المحب. منهم من تهكم بأن هتافات «بالروح والدم نفديك يا سورية» لم تكن إلا «شو» إعلامياً، ومنهم من رجح أن الشهداء الملايين الذين يقف الداعية صفوت حجازي حائراً بين توجيههم إلى القدس أو سورية أعيد توجيههم صوب المصريين لأن «الأوتوبيسات» التي تقل الجماعة وحلفاءها لن تتحمل مشقة الطريق. مشقة الطريق في رمسيس تقابلها مشقة سكان مصر الجديدة ومدينة نصر (شرق القاهرة) حيث يتمركز أنصار «الشرعية والشريعة» فيهتفون ويكفرون ويصبون جام غضبهم على كل من عداهم، ثم يأكلون ويشربون، ويخرجون لقطع هذا الطريق أو النوم في عرض هذا الميدان. نوم أنصار الدكتور مرسي انتظاراً لعودته بعرض طريق صلاح سالم، أحد أكثر طرق القاهرة حيوية، أسفر عن مطالبة شعبية من المحبوسين في سياراتهم بأن يعيد المصريون النظر في أسطورة الكيان الأميركي. مجموعة من السيدات الأرستقراطيات اشتبكن في حديث مطول عن «أميركا أرض الديموقراطية وحقوق الإنسان ومهد الحريات والمعونات» التي انفضحت وباتت سيرتها على كل لسان بعد «دعمها الأعمى» ل «الإخوان» ولو كان ذلك على حساب إرادة المصريين. وأخذت كل منهن تحكي عن عصمت ابن خالها المقيم في أميركا وقصصه عن العنصرية الأميركية، وسالي ابنة أختها المولودة هناك وتعاني الأمرين لأنها محجبة ويرفضون تشغيلها، وسعيد زوج «طنط اعتماد» الذي يشكو مر الشكوى من كراهيتهم للشرق أوسطيين. لكن سيد الموقف ومحور الأحاديث هو «الشرق الأوسط الكبير» الذي يرى المصريون أنه يتجلى بأقبح صوره في شوارع مصر وميادينه بفضل الجماعة وحلفائها وأتباعها من البسطاء المضحوك عليهم باسم الدين. ومن المشروع الأميركي للتقسيم الذي يؤكد المحبوسون في صلاح سالم أنه أجهض بإسقاط المصريين لنظام «الإخوان» إلى أحاديث «فتح» و «حماس» التي تداولها الشباب الذي ترجلوا من سياراتهم في شارع جامعة الدول العربية الذي أغلقه أنصار «الشرعية والشريعة» بحثاً عن الدكتور مرسي. وبين قائل بأن «سقوط الإخوان سيعيد «فتح» إلى الملعب المصري» ومشير إلى أن «حماس أكثر المتضررين من تبخر حلم الجماعة في مصر»، وملوح بأن «الوضع في مصر تحول إلى ساحة تراشق بين فتح وحماس»، عاد الحديث إلى نقطة الصفر بسؤال أحد المستمعين: ممكن حد يفهمني ايه الفرق بين فتح وحماس؟ أليس كلاهما فلسطيني؟». أغنيات المقاومة الفلسطينية التي تصدح في أرجاء مدينة نصر بعد تغيير كلماتها لتكون موجهة إلى مصر الإسلامية ويغنيها منشد سوري حيث اعتصام «رابعة العدوية» الذي حول هذا الحي مترامي الأطراف إلى منطقة مشلولة على مدار اليوم تثير كثيراً من الأسئلة والمخاوف بين مقاومي الانسداد المروري هناك. بعضهم بدأ يشعر بمشاعر سلبية تجاه الفلسطينيين والسوريين نتيجة ما يقال عن تدخلات في شؤون مصر تضامناً مع الجماعة، لكن سرعان ما يعلو صوت رجل رشيد محذراً ومذكراً بأن السياسة لن تنسي المصريين أن العرب أخوة. وتبقى الأخوة التركية مصدراً للنقاش وسبباً في الخلاف في هذا القطع أو ذاك الاعتصام. أبناء الطبقات الوسطى يتحدثون عن صدمة في تركيا التي طالما اعتبروها مثالاً يحتذى في النهضة، لكن دعمها ل «الإخوان» وحلمها ب «الخلافة العثمانية» يثير المخاوف. ومن النساء من يشعرن بأن حياتهن المتمحورة حول متابعة آخر مكائد «هويام» في مسلسل «حريم السلطان» ووداع «علي» لعائلته في مسلسل «على مر الزمان» باتت على المحك. لكن المحكات كثيرة في أحاديث الشارع. عاد كبار السن يتحدثون عن الدور الروسي المرتقب، مسترجعين ذكريات الستينات وخطوات الراحل جمال عبدالناصر في هذا الصدد. وما دام الشيء بالشيء يذكر، فإن الجمع من أصحاب المعاشات يتذكر ما فعله ناصر من توطيد لعلاقات مصر مع إثيوبيا وكيف أنه دعا الإمبراطور هيلاسيلاسي المسيحي الأرثوذكسي لحضور حفل افتتاح الكاتدرائية المرقسية في العباسية عام 1964. الطريف أن هذا «الانضغاط» من قبل «الإخوان» أسفر عن كثير من «الانسياب» في شؤون السياسة الدولية وأمور الدنيا لدى المصريين المزنوقين في «رمسيس» والمحبوسين في «المهندسين».