اختُتمت في مدينة «جرش» الأثرية، فعاليات القسم الأول من مهرجان جرش للثقافة والفنون في دورته الثامنة والعشرين، بليلة غناء أردنية أحياها أسامة جبور وديانا كرزون وسماح بسام. ويتواصل القسم الثاني حتى 20 تموز (يوليو) الجاري، في المركز الثقافي الملكي في عمّان. يشارك في فعاليات العاصمة فنانون مثل اللبنانية غادة شبير، والفلسطيني عبدالمنعم عدوان، والمصرية رحاب مطاوع، والأردنيون بسام الحلو ومصطفى شعشاعة وغادة عباسي، إضافة إلى فرقتين فنيتين «أهل المغْنى» من مصر، و «دلال» للفنون الشعبية من بيت لحم. وسيكون للمسرح الأردني حصّة كبيرة مع عروض «في الانتظار»، و «علّي صوتك مع زعل وخضرة»، و «سلافة النمرود»، إضافة إلى المسرحيات المخصصة للأطفال «صانع العطور» و «الابن البار» و «البحث عن لؤلؤة» و «البحث عن علقم» و «كان ياما كان». فعاليات القسم الأول التي حاولت إدارة المهرجان صبغها بالطابع الثقافي، حضر المسرح فيها مع عرض «الليلة التاسعة ما قبل الأخيرة» الذي عُرض على «مسرح هاني صنوبر» في المركز الثقافي الملكي، وظهرت فيه فضاءات النص في اللوحات والمشاهد، وفق أسلوب السيرة الذاتية، ما منح الموضوع طابع المعاينة الحية، خصوصاً عند البوح والتصريح من الشخصية الرئيسة (الراوي). العرض الذي جاءت جماليات الشكل فيه واقعيةً، تناول العلاقة بين المثقف والسلطة من وجوهها المختلفة، وعاينَ طبيعة هذه العلاقة والتباساتها في مرحلة ما قبل «الربيع العربي»، وفق شكل مسرحي تأسّس على تقنية الذاكرة الانفعالية. ورصدَ الأداء السمعي البصري، حجمَ الظلم الواقع على المثقف، من لدن النظام السياسي العربي عموماً لجهة اضطهاده ودفعه إلى خيارين لا ثالث لهما: الوقوع في التبعية، أو أن يصبح ضحيةً للإقصاء والتهميش. كما عُرضت مسرحية «كثيراً من الحب»، للإسباني أليخاندرو كاسونا، على المسرح نفسه التي انسالت المعاني فيها باتجاه أن الإنسان كائن اجتماعي أساساً، وأن الفضيلة والرذيلة ليستا سمتَين موروثتين، وإنما تلتصقان به أو تنأيان عنه تبعاً لظروفه النفسية والاجتماعية. ندوة لجورج قرم واشتملت أحداث البرنامج الثقافي للمهرجان، على ندوة حوارية حول الهوية، أكد فيها الكاتب اللبناني الوزير السابق جورج قرم أن نهوض العرب سيضع نهاية لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، وأن فشل القومية العربية ناتج من ضعف برامج التنمية. ولفت قرم في الندوة التي أقيمت في قاعة المؤتمرات في المركز الثقافي الملكي، وأدارها المفكر الأردني هشام غصيب، إلى أن القوى الاستعمارية والحركة الصهيونية تغلغلت إلى الهويات الفرعية في جسد الأمة، وعملت على إحياء «الأقليات» بصفتها بديلاً من الأمة. وجاء النشاط الشعري في ثلاثين أمسية قُدّم عدد منها على مسرح أرتيمس الأثري، فيما أقيمت بقية الأمسيات في مقر رابطة الكتاب الأردنيين والمركز الثقافي الملكي في عمّان. وتردّد في أوساط «الرابطة» التي أنيطت بها مهمة الإشراف على البرنامج الثقافي، أن هناك «ارتجالاً» و «محسوبيات» في اختيار أسماء الشعراء المشاركين، نظراً إلى قرب انتخابات الهيئة الإدارية للرابطة! لكن أمسية الشاعر المصري أحمد فؤاد نجم، التي نقلتها إدارة المهرجان من مسرح أرتيمس إلى الساحة الرئيسة، وسلّط عليها الإعلام المحلي الأضواء، لم يحالفها الحظ بجمهور كبير نسبياً كما كان يُتوقَّع، فيما غصّ المسرح الجنوبي المجاور للساحة بما يزيد على 3 آلاف مشاهد جاؤوا لمشاهدة المغنية نانسي عجرم. ومن الفِرق التي واصلت حضورها الفني في «جرش» منذ تأسيسه، فرقة «نادي الجيل الجديد للفولكلور الشركسي» التي قدمت على المسرح الجنوبي لوحات ومشاهد من التراث الشركسي. وشكّلت مشاركة عازف الأكورديون العالمي أصلان لبزو «إضافة نوعية» إلى حفلة الفرقة هذه السنة. ليلة فلسطين قدمت فرقة «العاشقين» التي أُسست عام 1977 أغانيها التي جاءت في جلّها مكرورة، وذلك ضمن «ليلة فلسطين» على المسرح الجنوبي، ومما قدمته: «هبت النار»، و «يا بيروت»، و «هدّا البلبل ع الرمان»، و «يا مهيرتي»، و «الله لأزرعك في الدار يا عود اللوز الأخضر»، و «قيدي يا ثورة». في مشاركتها الثانية في «جرش»، وجهت الفرقة بإشراف حسين منذر الملقب ب «أبو علي»، تحية للمخيمات الفلسطينية في الشتات، بخاصة مخيّم اليرموك في سورية. وضمن «ليلة فلسطين» أيضاً، قدمت فرقة «العودة» من الناصرة في الجليل لوحات راقصة جسّدها 18 راقصاً وراقصة، في الساحة الرئيسة للمدينة الأثرية، وقد انتظمت دبكاتها على أنغام الأغاني المستقاة من الموروث الشعبي الشفاهي في فلسطين. واحتضن المسرح الشمالي نشاطات ثقافية مثل باليه «شهرزاد»، المستمدة أحداثها من حكايات ألف ليلة وليلة، وهي من تأليف الروسي نيكولاي ريمسكي كورساكوف، وإخراج رانيا قمحاوي. هذا الاستعراض الموسيقي الراقص، قام بنائياً على مشاهد ولوحات من حكايات شرقية، بخاصة في السيناريو المرئي «عنترة»، و «شهرزاد»، التي نجحت قمحاوي في توليفها، لجهة تضمينها المزاج الشرقي للشخوص، وإظهار جماليات الموروث الشعبي الشرقي، بتناغم أخّاذ في جمله ومقطوعاته الموسيقية. وتناولت اللوحات التي قامت على جماليات فن الباليه الكلاسيكي، ثيمتين: ذكورية شهريار المستندة إلى قسوة سادية، وحسن تدبير شهرزاد في التعامل معه. كما عُقد مؤتمر السرد العربي الثالث الذي نظمته رابطة الكتاب الأردنيين، في قاعة المؤتمرات بالمركز الثقافي الملكي، وحملت دورته هذا العام اسم الروائي الأردني الراحل تيسير السبول، وقدم فيه 19 مشاركاً عربياً أوراقاً تمحورت على «السرد والصحراء». وكرمت الرابطة واللجنة العليا لإدارة المهرجان، عدداً من الرواد في الأدب والثقافة والفكر والأكاديميا والسياسة من أعضاء الرابطة، هم: العلّامة ناصر الدين الأسد، محمود السمرة، عبدالكريم غرايبة، هاشم ياغي، عبدالرحمن ياغي، محمد شاهين، نهاد الموسى، يعقوب زيادين، يوسف بكار، عايدة النجار، صادق عبدالحق، صبحي غوشة، صالح حمارنة، سمير قطامي، ناصيف عواد ومفيد نحلة. حصة الغناء وعلى مستوى الغناء الذي حظي بالحصة الكبرى من الجمهور، لم تغادر العلاقة الطردية بين عدد الحضور ومدى نجومية المغني إطارَها المعتاد، ففاض المسرح الجنوبي في المدينة الأثرية بالمشاهدين، بخاصة في حفلات نانسي عجرم، نجوى كرم، عاصي الحلاني، كارول سماحة وكاظم الساهر. إلا أن ما ميز الأخيرَ احتشاد جالية عراقية كبيرة ضمن الجمهور، بينما انتمى جمهور بقية النجوم إلى دول عربية مختلفة. وقد استعاد كل من هؤلاء الأربعة إرث الرحابنة وفيروز. فعزفت فرقة نجوى كرم قبل مواجهتها للجمهور: «بحبك يا لبنان»، وقبل دخول الحلاني قدمت فرقته «راجعين يا هوى»، واختارت عجرم «سألوني الناس»، بينما حضرت فيروز في حفلة سماحة بأغنية «دقّوا المهابيج». مجنون نانسي ونجوى ولفت النظر في دورة هذا العام تسلّق شاب (17 سنة) من قرية «برما» في محافظة جرش، أعلى الأعمدة في المسرح الجنوبي، وإعلانه أنه سيُلْقي بنفسه إذا لم تمنحه عجرم فرصة للحديث والجلوس معها، حيث حبس الجمهور أنفاسه وهم يتوقعون سقوطه في أي لحظة. لكن الأمر انتهى بتوقف الحفلة ليحقق هذا المراهق مُبتغاه. والمفارقة، أن هذا المراهق نفسه، كرر فعلته في حفلة نجوى كرم، بالتفاصيل نفسها، وكان له ما أراد، ما اضطر رجال الأمن إلى «استضافته» في الحفلة الأخيرة، خشية أن تقود تصرفاته الخطرة هذه إلى ما لا يُحمَد عقباه. وقد أثارت التوترات الأمنية على الحدود الشمالية، غضب أهالي «جرش» الذين أعلن بعضهم احتجاجه على إقامة المهرجان، وعدم احترام «الظروف العصيبة والأوضاع المحزنة التي يعيشها الأشقاء السوريون». وعُلّقت لافتات على الشبك المعدني للمسرح الشمالي، تحمل عبارات مثل: «طفلة من قرية سورية... غنّوا وارقصو فأنا الآن أُذْبَح». لكن هذه العبارات لم تؤثر في سير المهرجان الذي بلغت موازنته لهذا العام مليونين ومئة ألف دينار أردني من الموازنة العامة للدولة (حوالى 3 مليون دولار أميركي). والمخجل أن الجمهور توجّه في غالبيته إلى الحفلات الغنائية، فيما بقيت مقاعد الفعاليات الثقافية شبه فارغة. فهل هذا مرتبط بحجم الإنفاق المنخفض نسبياً على البعد الثقافي من هذه الموازنة؟ (خصوصاً أن مدير المهرجان محمد أبو سماقة صرّح أن إدارة المهرجان أنفقت على الفعاليات المجانية حوالى 400 ألف دينار، تشمل الفعاليات التي أقيمت في الساحة الرئيسة، ومسرح أرتيمس والفعاليات الثقافية)، أم إن تأثير الفضائيات كبير في الجمهور الذي ينحاز إلى الفن ونجومه؟ أم إن الأمر متصل بغياب «نجوم» الثقافة، كالراحل محمود درويش الذي كاد يكون الوحيد من بين المثقفين الذي حظي بجمهور في «جرش» يضاهي جمهورَ نجوم الفن. هي أسئلة تثار في سياق الحديث عن جدوى «الثقافي» في مهرجان ك «جرش» في ظل واقع عولمي يحاصرنا شئنا أم أبينا.