تختلط الأمور في ليبيا حالياً من حرب شوارع حقيقية إلى حرب شوارع سياسية، من دون معرفة أبسط القواعد الوطنية في أن البداية دائما تكون من الداخل. وكما سقط عهد معمر القذافي بكل جبروته من الداخل الليبي، فإن الاستمرار في الطريق إلى تحرر الوطن والمواطن لن يكون طويلاً، إنما من داخل الشعب وممثليه وحكومته. ويغيب في الوقت الراهن عن الحكومة، وكذلك عن المؤتمر الوطني، أنهما يخصان الشعب الليبي، في الوقت الذي تمنع الأولى عن الثاني حالياً المعلومات، بدعوى أسباب أمنية. ولم يعط أحد الوكالة بحجب المعلومات عن الشعب ومنح كل الملفات الطابع السري، خصوصاً في ظل انهيار البلد سياسياً وأمنياً وفي ظل الشك في الأمن، الجيش، الحكومة، والبرلمان. لا أحد أوكل المؤتمر أو أعطاه الوكالة في تغييب الحقائق عن شعب عاش في العماء 42 عاماً ويريد أن يعرف الآن. المعرفة حق للشعب الليبي الذي انتخب أعضاء المؤتمر الوطني لسببين فقط: الدستور، ورئاسة الوزراء، ولا يطلب أكثر من أن يكون المؤتمر نافذته على الحقيقة المطعمة بالمعلومات والمشمولة بالشفافية، وأن يقول له المؤتمر، بصفته البرلمان المنتخب، ما الذي ستصير إليه الأمور. وليس من المعقول أن يعتمد المؤتمر 65 بليون دولار موازنة وليس لدينا في الواقع البنية التحتية لتوزيع المال بالطرق المنضبطة، والمال السائب يعلم السرقة، وطالما هناك مال سائب هناك فساد. 65 بليون دولار موازنة ويسأل الشعب الليبي أين المستشفيات، الأمن، والجيش، لا شيء من ذلك لدينا ولا يعرف أحد، حتى رؤساء الوزارات، شيئاً عن صرف الموازنة، لا محمود جبريل ولا علي زيدان. ومن أسف أن كلمة ثوار حالياً تعادل كلمة العار، فهل وصلت بنا الحال في ليبيا إلى درجة أن الذين ضحوا بأرواحهم ودمائهم أصبحوا عاراً، وأن يعلم أولادهم وأمهاتهم أنه ما أن نقول ثوري الآن فإن ثمة عاراً. لنقل من البداية إن لدينا صراعاً بين ما يسمى بالإخوان المسلمين أو التيار الإسلامي والتيار الآخر، حيث يرى البعض أن العزل السياسي مثلاً هو أكبر مصيبة في ليبيا، لأنه سيطبق على أفراد كانوا في مواقع المسؤولية في عهد معمر القذافي، ولم يخرج أحد ليقول لليبيين الحقيقة أنه كان من المفترض أن الإخوان الذين أبرموا معاهدة مع القذافي في عام 2005 مفروض أن تطبق عليهم. على أحد ما من سادة الحكم أن يقولها للشعب الليبي أن هناك اتفاقية بين القذافي والإخوان، وهذا ليس سراً. العزل السياسي لن يحل مشاكل ليبيا ولا ينبغي النظر إلى المسؤولين في عهد القذافي الطويل باعتبار أن الاستعمار يعود وهم لا يعودون، هذا كلام غير منطقي. أي ليبي كان مسؤولا في عهد معمر وظل يعمل معه ويخدم استبداده لا مكان له في ليبيا الجديدة، ولكن يجب ألا يضر هكذا قانون بكثيرين خدموا ليبيا. ماذا فعلنا بالقانون المعاند؟ هل أوقف العزل السياسي التدخل الإقليمي والأجنبي في الشأن الليبي وتدخل التيارات الإسلامية العالمية التي تستعين بمقاتلين من كل مكان؟ هل أوقف العزل السياسي أو يوقف هذه الكارثة، والكل موجود والعزل السياسي لم يطبق، في وقت أصبح الوضع الأمني كارثياً، فالكل يدخل إلى ليبيا ويخرج منها وكأنه في الحديقة الخلفية لدولته؟ وحتى من دون هذا، فإن المتطرفين يعيثون في ليبيا، وهناك مدن ليس فيها شرطة على الإطلاق لأنها خاضعة لسيطرة متزمتين. الشعب الليبي يتابع ما يحدث في المنطقتين الشرقية والغربية وما من ردع من الحكومة. هل يعقل هذا؟ هل تدار بلدنا بالطريقة هذه؟ لماذا؟ كلنا 5 ملايين نسمة، وللأسف تنتشر الكتائب والمسيطرون عليها ويغيب المؤتمر الوطني. لقد أعطى الشعب الثقة للمؤتمر الوطني وكل ما هو مطلوب منه أن يعترف بعدم القدرة على السيطرة، وأن تعترف الحكومة بالفشل وتترك الزمام لغيرها ممن يقدر. ليبيا لم تعقم، وهناك ليبيون خارج المؤتمر الوطني وأصحاب الحقائب الوزارية، من النزاهة ورجاحة العقل ما يجعلهم مؤهلين لقيادة البلد. مر عامان على هذا الوضع والحالة أسوأ من ذي قبل ونستطيع في كل وقت أن نستدعي العدو الخارجي والمتسللين من هنا وهناك، بينما أي تآمر أو محاولة فرض نفوذ لن تجد صدى في ليبيا إلا بتعاون الناس. فلماذا نضع اللوم على الغير ودائماً نقول إنهم الأجانب، العيب فينا نحن وفي مؤتمراتنا الوطنية وحكوماتنا. والحكومة ما هي إلا جهاز يعمل لدى الشعب، وبالتالي التوكيل الذي بحوزتها هو توكيل بإدارة الدولة وليس لديها توكيل بالتصرف في ليبيا. لكنها تتصرف في النفط وعقود التنقيب وتمنح رشاوى تصل إلى 10 في المئة لمن يأتي بأموال مهربة، إلى آخر هذه التصرفات الصبيانية التي لا تحترم عقل الليبي ولا تلجأ إلى العلم ولا تتخذ طريق الحكم الرشيد. هناك نفط في ليبيا ومعدات يجب تشغيلها قبل التنقيب وهناك مكاتب محامين دوليين معروفين لاستعادة الأموال وهناك طرق معروفة للعثور على أصول الاستثمارات الليبية في الخارج والتي لا يعرف أحد عنها شيئاً، فيما لا ينشغل المؤتمر ولا الحكومة بملف الليبيين في الخارج الذين لا يعودون، وكأنهم على ذمة أننا في حرب. النخبة الحاكمة في ليبيا في طريق تدمير ليبيا ولا تدرك أن ثوار 17 شباط (فبراير) سيثورون من جديد. هؤلاء هم الثوار الحقيقيون الذين أوصلتهم الحكومة والمؤتمر إلى مرحلة ضرورة قيام ثورة من جديد. إن 90 في المائة من العقود التي تم توقيعها أيام معمر فيها فساد يطلع من شعر الرأس، وإذا كان ثمة إعادة تقويم للشركات الأجنبية وإعادة النظر فيها، فلا أجد أي خطأ في هذا، والعقود الآن توقع بعشرات البلايين ولا أعرف لماذا؟ فهل يعقل أن الشركات الأجنبية ستأتي بموظفيها في الحالة الأمنية الراهنة، والبعض يرى أن هذه الشركات ستساهم في حل المشكلة الأمنية بإنعاش الاقتصاد وتوظيف العاطلين من العمل في هذه الشركات، بينما لا يعرف هؤلاء أن 90 في المئة من الموظفين والعمال في هذه الشركات أجانب، وبالتالي فلن تكون الفائدة للمواطنين أكثر من 5 في المئة من هذه المشاريع. * كاتب ليبي، رئيس «منتدى ثورات الربيع العربي»