لعل الملاحظة الأبرز على انتفاضة 30 حزيران (يونيو) في مصر، أن البلد تمزق ما بين مؤيد ومعارض لتلك الهبة. فالقوى العلمانية والثورية تعتقد أن تلك الانتفاضة الشعبية هي ثورة مكتملة الأركان اندلعت كنتاج طبيعي لسياسات جماعة «الإخوان» المتمثلة في فشلها السياسي وميولها الفاشية والإقصائية. وفي المقابل تعتقد الجماعة وحلفاؤها أن تلك الانتفاضة التي انتهت بخلع الرئيس محمد مرسي هي بمثابة انقلاب كامل على الشرعية الدستورية والقانونية، خصوصاً بعد بيان الجيش الذي أعلن فيه انحيازه التام لمطالب الشعب وفرضه «خريطة طريق» لحل الأزمة. فالأمر الكارثي في تلك الأحداث المتسارعة يكمن في انفتاح الأفق السياسي والاجتماعي في مصر على اقتتال أهلي واسع، لذلك فإن المطلب الأساسي الآن هو الوقوف على المسبب الأساسي لهذا الاحتقان الكبير في الشارع المصري والذي أعتقد أنه يتمحور حول مفهوم الثورة المضادة. فالصراعات الأهلية الكبرى والعنيفة بعد الثورات ارتبطت تاريخياً بتعريف الثورة المضادة. ذلك هو ما حدث في أعقاب الثورة الفرنسية. فوفق فرنسوا فوريه فإن تاريخ القرن التاسع عشر كله كان تاريخ الصراع بين تلك الثورة والارتداد عليها. كما أن الثورة البلشفية هي الأخرى شهدت الصراع نفسه الذي انتهى باندلاع الحرب الأهلية الروسية عام 1918 ما بين الشيوعيين البلاشفة ومجموعات غير متجانسة من المحافظين والديموقراطيين والشيوعيين المعتدلين والقوميين والروس البيض والتي كانت أيضاً نتاجاً لمقاومة الطبقات الحاكمة التي فقدت سلطاتها وممتلكاتها لتلك الثورة وتوجهاتها الاشتراكية. ومن ثم، فإن ما تشهده مصر في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها هو صراع ما بين أجنحة ثورة يناير. فالقوى الثورية والعلمانية تعتقد أن ثورة يناير فرضت حزمة من القيم والمفاهيم كالحرية والكرامة والعدل الاجتماعي، ومن ثم فإن انقلاب أي طرف عليها يضعه في خانة الثورة المضادة والفلول حتى وإن كان شريكاً في صنع تلك الثورة في الميدان. و «الإخوان» في المقابل يعتقدون أن المطالبات الثورية بالمعنى الضيق، والشعبية بالمعنى الواسع بعزل الرئيس والتي اقتضت تحالف القوى الثورية مع الدولة التقليدية وأنصار النظام السابق، تمثل في مجملها معنى ومضمون تلك الثورة المضادة. وهو ما يعني في النهاية أن قوى وتيارات ثورة يناير باتت مجبرة بعد عامين ونصف العام من اندلاعها على إجراء فرز ثوري حقيقي بحيدة ونزاهة تضمنان كبح جماح تلك الثورة المضادة بمفاهيمها وشخوصها من دون الدخول في دوامة من العنف الأهلي وإراقة المزيد من الدماء. فهذا هو التحدي التاريخي الأكبر الذي تواجهه تلك الثورة الآن. * كاتب مصري