تكمل ثورة يوليو 1952 عامها الستين، بينما لم تتحدد معالم ومستقبل ثورة 25 يناير 2011، ومع ذلك تطرح عديد من المقارنات، غالباً ما تتضمن مقارنات لا تاريخية ولا منطقية بين الثورتين، أو تحديداً بين دولة هرمة استندت في شرعيتها إلى ثورة في سن التقاعد، وبين ثورة فتية لم تكمل 18 شهراً حفلت بأزمات وانتكاسات وبالتالي لم تؤسس بعد دولتها. إغراء المقارنات بين الثورتين ربما يرجع إلى أن ثورة 2011 لا تزال تعيش في كنف وربما في سجن دولة 1952، لذلك تنتهي المقارنات إلى أحكام متسرعة لا تخلو من تحيزات وتصفية لثارات موروثة تعزز الاستقطاب والانقسام بين تيارات الفكر والعمل السياسي. وبعيداً عن المقارنات يمكن رصد وتحليل أربع مقاربات في توصيف العلاقة بين الثورتين لا تخلو من التأثر بمتغيرات السياسة وانقسامات المجتمع: المقاربة الأولى: تطمح لإحداث قطيعة تاريخية، وفكرية وسياسية بين الثورتين، بحيث يعلن رسمياً وشعبياً موت ثورة 1952 والدولة التي تستند إليها في شرعيتها، لتظهر دولة ثورة يناير التي تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين وثقافة مجتمع المعرفة وتكنولوجيا الاتصال والشبكات عوضاً عن ثقافة ثورة منتصف القرن الماضي، التي ولدت كانقلاب عسكري ثم تحولت إلى ثورة أسست لنظام شمولي يعتمد على سلطة الجيش في عصر كان يسمح بذلك ويقبله، لكن العالم تغير وبالتالي لا بد من دولة جديدة ونخبة جديدة تجسد احتياجات وطموح مصر في الألفية الجديدة. وتفترض مقاربة القطيعة أن ثورة يوليو انتهت بهزيمة 1967 أو موت عبدالناصر، وأن سنوات حكم مبارك قد أدت إلى تفكيك وإضعاف الدولة، ومأسسة الفساد والظلم الاجتماعي، وبالتالي لا بد من التفكيك الإيجابي للدولة وإعادة هيكلتها في ضوء شعارات وأهداف ثورة يناير. في هذا السياق يراهن «الإخوان» والسلفيون على الوجه الإسلامي النهضوي لثورة 2011، وعلى ضرورة القطيعة التامة مع الوجه العسكري الاستبدادي العلماني لثورة 1952، والتي أسست للدولة المصرية في طبعاتها الثلاث: دولة عبدالناصر، والسادات، ومبارك. ويطمح الليبراليون أيضاً لإحداث قطيعة مع دولة 1952 أو ما تبقى منها، لكنهم مع إصلاح وتطوير نزعتها التحديثية وطابعها المدني، إضافة إلى توسيع الحريات، وهنا لا بد من إشارة سريعة إلى أن مفهوم الدولة المدنية يستعمل في مصر منذ التسعينات كبديل عن مفهوم العلمانية، والذي تعرض لحملات تشويه تربط بينه وبين الكفر والانحلال الأخلاقي، لكن المفهوم بعد ثورة 25 يناير تعرض لإعادة تأويل وتوظيف من قبل الإسلاميين حيث استخدموه للإشارة للدولة غير العسكرية، وأعلن الرئيس «الإخواني» محمد مرسي التزامه مدنية الدولة وفق هذا الفهم، وبالتالي يتكشف الخلاف العميق حول مفهوم الدولة بين القوى الإسلامية والليبرالية، حيث يقتصر لدى الإسلاميين على نفي الطابع العسكري لدولة يوليو، وكذلك مدنيتها، فالعسكريون يمسكون بالسلطة في مصر، وقد نجحوا في الفصل بين الدين والسياسة لكن من دون تهميش دور الدين في المجتمع أو شن حرب عدائية على الإسلام كما فعل أتاتورك وسار على دربه بورقيبة. وأعتقد أن هذه العلمانية تقترب إلى حد كبير مما يسعى إليه التيار الليبرالي، وكذلك الناصريون وقوى اليسار، مع بروز اختلافات عميقة حول مفهوم وحدود العدالة الاجتماعية ونمط التنمية المستهدفة بين الليبراليين من جهة واليسار والناصريين من جهة أخرى، وكل هذه أسباب ومظاهر للقطيعة مع ثورة 1952، لكن الإشكالية أن القوى التي صنعت الثورة لا تشارك كلها في صنع القطيعة، وإنما ينفرد بها فصيل واحد هو «الإخوان المسلمون» الذين نجحوا في الانتخابات، ما يثير مخاوف من قيام أول دولة إسلامية تكون بديلاً عن دولة يوليو في طبعتها المباركية، وهي لا شك ستكون أقل فساداً، وستجتهد في استعادة دور ومكانة مصر لكن ثمة مخاوف من صدقية التزام «الإخوان» بمدنية الدولة – علمانيتها - وتداول السلطة والحريات العامة واحترام حقوق الأقليات. تلك المخاوف تمنح ما تبقى من دولة مبارك دعماً وتعاطفاً شعبياً عبَّر عن نفسه في تصويت 48 في المئة من الناخبين لأحمد شفيق مرشح النظام القديم، ما يحول دون قدرة «الإخوان» والسلفيين على إحداث القطيعة التي يرغبون فيها، وهي القطيعة مع تقاليد وتشريعات الدولة المصرية الحديثة ومؤسساتها، لتأسيس دولة بمرجعية إسلامية غامضة ومراوغة، وغير محددة المعالم وذات نزوع تجريبي لا نعرف نتائجه أو تداعياته على الوحدة الوطنية والتنمية والعدالة الاجتماعية. إذن مكمن الخطر في أن تكون القطيعة بين الثورتين ذات صبغة إسلامية غامضة تناصب العداء لثورة يوليو التي شكَّلت تاريخ مصر في الستين سنة الأخيرة، وقد يرتب العداء الموروث نزوعاً للانتقام وتصفية الحسابات، ولعل إشارة الرئيس مرسي السلبية إلى الستينات في أول خطاب له بعد فوزه بالرئاسة تشي بهذه التوجهات. المقاربة الثانية: تفترض أن ثورة 2011 هي تصحيح واستكمال لثورة 1952، التي شكلت شرعية الحكم والدولة خلال 60 عاماً حفلت بالهزائم والإنجازات. لقد سعت تلك الثورة إلى تحقيق الأهداف الستة الشهيرة وهي القضاء على الإقطاع والاستعمار وسيطرة رأس المال على الحكم وإقامة حياة ديموقراطية وجيش وطني وعدالة اجتماعية، ويمكن القول إن دولة عبدالناصر نجحت في تحقيق خمسة أهداف وفشلت في إقامة حياة ديموقراطية سليمة، وهو ما يجب أن تسعى إلى تحقيقه ثورة 2011، إضافة إلى السعي لتحقيق ما فشلت فيه دولة مبارك وهو العدالة الاجتماعية والقضاء على تحالف رأس المال والحكم. وأعتقد أن مقاربة الاستكمال والتواصل بين الثورتين ذات طابع نظري لا يخلو من آلية التفكير بالأمنيات من دون مراعاة الوقائع على الأرض، فثمة فجوات تاريخية وجيلية بين الثورتين، كما أنه لا وجود لدولة واحدة مستمرة لثورة 1952 وإنما هناك ثلاث دول – عبدالناصر والسادات ومبارك – بينها اختلافات كبيرة، إضافة إلى عدم وجود قوى اجتماعية أو سياسية قادرة على تجسيد التواصل بين الثورتين وفرضه على المجتمع من خلال الإقناع وصندوق الانتخاب. وأتصور أن خطورة هذه المقاربة أنها تريد أن تدجن ثورة 2011 في إطار دولة يوليو الهرمة، والتي يقودها حتى الآن مجلس عسكري ينتمي بحكم الوعي والخبرة والمصالح لنظام مبارك والذي يجسد الطبعة الأسوأ والأكثر فساداً بين طبعات دولة يوليو. المقاربة الثالثة: ترفض الاعتراف بثورة 25 يناير وتنطلق من مسلمة أنها ليست ثورة وإنما انتفاضة شعبية ديموقراطية أسقطت الرئيس وبعض رموز نظامه لكنها فشلت في تغيير النظام أو الوصول إلى السلطة، فالتركيبة الاجتماعية والسياسية لدولة مبارك مستمرة، والإصلاحات التي تمت محدودة ومتعثرة، ولم يحدث تغيير في علاقات الإنتاج وموازين القوة والسلطة في المجتمع. وبالتالي لا يمكن مقارنة انتفاضة 2011 بثورة 1952، وإنما يمكن مقارنتها بانتفاضات عديدة شهدتها مصر أشهرها انتفاضة 1977. ويشير أنصار المقاربة الثالثة إلى أن العسكر و»الإخوان» أجهضوا الانتفاضة واستفادوا منها، في الوقت الذي تراجعت فيه أوضاع المصريين وفق معايير التنمية البشرية فقد تدهورت الحالة الأمنية والخدمات الأساسية التي تقدمها الدولة وارتفعت الأسعار. وقد تكون هذه الأحكام صحيحة، لكن خطورتها أنها تسلم بهزيمة ثورة 2011 ولا ترى أي أمل بالمستقبل، لذلك أعتقد بضرورة الانتظار ومنح الثورة مزيداً من الوقت حتى تحسم خياراتها الاجتماعية، فضلاً عن المشاركة الفعالة في تشكيل ملامح المستقبل، فنحن إزاء حالة ثورية غير مكتملة وتدور حولها صراعات معقدة داخلية وخارجية ستحسم مصيرها، وبالتالي لا وجه للمقارنة بين الثورتين أو بين ثورة هرمة وحالة ثورية على مفترق طرق، ولا داعي للتسرع ووصف ثورة 2011 بأنها نصف ثورة أو انتفاضة ديموقراطية. المقاربة الرابعة: تسعى لإدماج ثورة 2011 ضمن تاريخ الحركة الوطنية من دون تمييزها عن غيرها من الثورات، فلكل ثورة خصوصيتها وظروفها التاريخية ومن ثم من الخطأ إجراء مقارنات تفضيلية بين ثورات مصر في العصر الحديث، فلكل منها أسبابه وأهدافه وإنجازاته وإخفاقاته. ولا بد أن تقتصر المقارنات على التعلم والاستفادة من تاريخ كل ثورة لتجنب الأخطاء وتطوير الإيجابيات. في هذا الإطار تطرح مقاربة التواصل التاريخي على ثورة 2011 مهمات الحفاظ على الاستقلال الوطني وتحقيق الديموقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية الشاملة في مطلع الألفية الثانية. ما يعني أن ثورة 2011 هي حلقة جديدة من حلقات النضال الوطني لتحقيق نهضة حضارية شاملة. وإشكالية هذه المقاربة أنها تفترض قدرة واستعداد القوى الفاعلة في ثورة 2011 على إجراء مصالحة مع التاريخ الوطني، والقبول بفكرة البناء على ما سبق بعد تصحيحه أو تطويره، وهي عملية صعبة في ظل الكراهية الموروثة والمتبادلة بين الدولة والتيار الإسلامي، نتيجة صدامات دموية مريرة وانتهاكات لحقوق الإنسان خلال 60 عاماً، لذلك تفيض الأدبيات الإسلامية بأحكام وتقييمات رافضة تماماً لدولة يوليو وتنظر إليها باعتبارها مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين، حتى أنها لا تعترف بأي إيجابية لتلك الدولة، ولا شك في أن هذه الأحكام متأثرة بالمعاناة التي تعرض لها الإسلاميون والانتهاكات التي وقعت بحقهم. لكن الشيوعيين والليبراليين تعرضوا لانتهاكات مماثلة ومع ذلك قدموا تقييمات نقدية متوازنة لتاريخ ثورة 1952، فهل يراجع الإسلاميون مواقفهم وتقييماتهم لتاريخ مصر الحديث؟ أتصور أن هذه المراجعة مطلوبة وضرورية بعد أن أصبحوا في السلطة وعلى رأس الدولة، وبالتالي عليهم إجراء مصالحة وطنية تبدأ بالمصالحة مع التاريخ، وعليهم أيضاً البناء على إيجابيات ثورة يوليو وليس البدء من نقطة الصفر أو من عند تصورات غامضة ومراوغة عن دولة إسلامية. * كاتب مصري