لا يمكن لبنان أن يقف متفرّجاً إزاء السياقات الإقليمية والدولية المستجدّة، على أحقية عدم التسرّع في البناء على إيجابيات النفس الحواري، خصوصاً بين الولاياتالمتحدة الأميركية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ إنّ السؤال يبقى في من يحسم نوعية التعاطي غير إسرائيل. ناهيك بمرتبات أي نوعية كانت، جزرةً أو عصا. أمّا فقاقيع البيانات الإعلامية والاستنفارات المنبرية، فما هي سوى تحسينٍ للتموضع التنافسي أكثر منها توصيفاً لمهزوم ومنتصر. في كل الأحوال، وإذا كان لبنان مدعوّاً إلى عدم التفرج على كل هذه السياقات من باب قناعته بأنّه دفع أثماناً باهظة من مجازر العدوّ وظلامات الصديق، الأكثر مضاضة، على حدّ سواء، وأنّ حياده بات يستأهل تفكّراً جديّاًً، ليس بمعنى الانسحاب من مواجهة العدوّ الإسرائيلي، بل بمعنى اختيار أفضل أساليب المواجهة الفعّالة، بما يُجنّبه تداعيات كارثيّة كتلك التي لم يزل يعانيها منذ عدوان ال2006، إذ انقلب السلاح المقاوم على الداخل في لحظة غضب كانت خطأً استراتيجياً فرحت له إسرائيل، كذلك الأمر في الاصطفافات الفلسطينية الحادّة، عسى تسهم مصر في فكفكة عقدها، على رغم أن تجربة «اتفاق مكّة»، كشفت كثيراً من مستُور الأفعال المناقض لإعلان النيات، فإنّ عدم التفرّج يقتضي فعلاً لا انفعالاً. وإذا كان اختيار أفضل أساليب المواجهة مع العدوّ الإسرائيلي يرمي إلى تحقيق مكاسب وطنية أكثر منه سياسية داخلية، واستراتيجية تفاوضية، لا تمتُّ بصلة الى المصلحة اللبنانية العليا، بما يعني تعديلاً مفترضاً في «اتفاق الطائف» من ناحية، ومقايضةً في الحجم الإقليمي الإيراني من ناحيةٍ أخرى، فإنّ هذا الاختيار يجب أن ينصبّ على ثلاث أمور رئيسة. أوّلها تحرير النصف اللبناني من قرية الغجر، وتسليمها الى الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي عبر الشرعية اللبنانية بالتنسيق مع الأممالمتحدة. وإذا كانت إسرائيل تُعدّ لانسحاب أحاديّ الجانب بغية إرباك لبنان، فالأجدى لنا الاستعداد في سيناريو تحرّك للشرعية اللبنانية الائتلافية، وتفادي أيّ ادّعاءات تسلّم وتسليم ثنائية، معلنة أتت أو غير معلنة، على غرار ما جرى في تحرير الأسرى، حيث بدت الشرعية اللبنانية متفرّجة في مشهد احتفالي صُنّفت فيه متخلّية عن أبنائها. وثاني هذه المسائل طلبُ الشرعية اللبنانية الرسمي من الأمين العام للأمم المتحدة الإفصاح عمّا آلت إليه دراسات الكارتوغرافيا حول مزارع شبعا، والتي من غير المفهوم حتّى هذه الساعة، لِمَ لم تُعلن، في حين أنّ إعلانها يُسهم في تحديد الخطوات التي سيقوم بها لبنان، كما يمكن أن تُلزم به الأسرة الدولية إسرائيل، وربّما سورية أيضاً، حتماً من دون توازي التصنيف. وهكذا تستعيد الشرعية اللبنانية حقّها سيادياً، بمنأى أيضاً عن أي إمكانات مساومات إقليمية من تحت الطاولة. أما ثالث الأمور الأخطر والأدق، والتي على لبنان الاستعداد لمقاربتها بنهج علميّ استراتيجي، فتتمثّل بقراءةٍ متأنية لأي دفعٍ قد تقوم به الأسرة الدولية بإعادة إطلاق سياق تسوية، بعد ترتيب البيت الفلسطيني، وموضعة أحجام القوى الإقليمية بدءاً بتركيا مروراً بالمملكة العربية السعودية وصولاً الى الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من دون تناسي تمايز سورية وثباتها في قرار المفاوضات الثنائية بمعزل عن انخراطها في تماسك عربيّ تُمثّله المبادرة العربية للسلام. وكان سبقها إلى هذا التمايز تاريخياً مصر والأردن. وهذا الدفع لبنان معنيٌّ به من حيث كتلة اللاجئين الفلسطينيين الموجودين على أرضه في المخيمات وخارجها، وصيغته الميثاقية الدستورية الرافضة كل أشكال التوطين والتقسيم، كما أهمية تمسّكه بحق العودة لهؤلاء اللاجئين، من مُنطلق عدالة قضيتهم الإنسانية والثقافية والاجتماعية التي ستترجم سياسياً بقيام دولة فلسطين، هذه العدالة التي يتوسّلها لبنان من الشرعية الدولية محصّناً بالشرعية العربية، وتحديداً منذ العام 2005، وتكرّست على وجه الخصوص بقيام المحكمة ذات الطابع الدولي وبالقرار 1701. فقضية اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وهنا بيت قصيد العدالة المفترضة لإنقاذ حق العودة كما الصيغة الميثاقية اللبنانية، نحتاج الإطلالة عليها من محاور ثلاثة. الأول قائمٌ في تحصين الإجماع الوطني وتفادي التسييس العنصري الطائفي. والثاني دعوة الى تبنّي ديبلوماسية هجومية لدى عواصم القرار بدل الاستجداء والتهويل. والثالث مرتكز إلى إلحاح بناء ملفّ تفاوضي. ففي تحصين الإجماع الوطني اللبناني حول دعم حق العودة يحتاج اللبنانيون إخراج هذه القضية من بازارات الزواريب الضيقة، وفصلها عن السياسويات المبتذلة. وفي هذا بداية بناء وطني يُحيّد الخيارات الكبرى عن الحسابات الصغرى. وللمؤسسات الدستورية الدور الحاسم لتحييد مماثل، ويسعى الى ذلك، بحسب ما يتبدّى من الممارسة الفاعلة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ورئيس مجلس الوزراء فؤاد السنيورة، على أهمية قدرتهما في إقناع الإئتلاف الحكومي بإيقاف التداول الشعبوي بهذه القضية النبيلة. وفي تبنّي الديبلوماسية الهجومية لدى عواصم القرار، لا بد من أن يوحّد لبنان رسائله السياسية على قاعدة الرؤية الوطنية، فتتحرك سفاراتنا شارحة تصور لبنان للحل بالاستناد الى قرارات الشرعية الدولية والمبادرة العربية للسلام، إلى تحريك كتلة أصدقاء لبنان ومغتربيه عبر تشكيل مجموعات ضغط يكون عملها الأوحد والمتخصص هذه القضية. أما في إمكان إنجاح المحورين السالفين، فإنّ أي مؤشّر مُنتج لا يبرز سوى ببناء ملفّ مدعّم باستنتاجات ديموغرافية ودينوغرافية واقتصادية وسوسيولوجية بمعزل عن الإطلالة الأمنية الضيقة، يحمل هواجس لبنان، وقناعة اللاجئين الفلسطينيين به برفضهم الحاسم لأي توطين، كما استعادة أجندة المفاوضات التي قامت حول اللاجئين منذ العام 1994، يُضاف الى ذلك ما يستحقّه لبنان من تعويضات عن هذا الوجود القسري والموقت، ولا علاقة لهذه التعويضات أبداً، كما يحلو لبعض البسطاء الربط، بينها وديون لبنان ورهانات توطينهم. لبنان في المفاوضات الشاملة يجب أن يستعد مستفيداً من مناخات المصالحات العربية، والعالم يعلم فعلياً خطورة فرض أي خيار توطين عليه، أمّا مسؤولية التحرك فتقع على عاتقه. * كاتب لبناني