«انزل»! هتفت قنوات الإعلام الفاجر. «ادعُ على من نزل»! هللت قنوات الإعلام الملتزم. «لو هتتنازل فأنت تستحق الإخوان» حذرت قنوات الإعلام الذاهب إلى النار لا محالة. «لو نازل فإنت بتتخلى عن دينك» هددت قنوات الإعلام الذاهب إلى الجنة بلا شك. المحلل الاستراتيجي يؤكد أن بقاءهم في السلطة طمسٌ لهوية مصر، وذلك في قنوات إعلام الخراب. الجهادي السابق المتحول إلى سياسي محنك يجزم أن انصرافهم عن السلطة طمس لهوية مصر الإسلامية في قنوات إعلام الهداية. المفكر الليبرالي يحذر من بيزنس المذاهب والطوائف في قنوات إعلام النخبة. المفكر التكفيري يكفّر كل من تسوّل له نفسه أن يَصِمَ مصر بالليبرالية الفاسقة أو العلمانية الداعرة في قنوات إعلام القاعدة الانتخابية العريضة من فقراء مصر. شاشات التلفزيون، هذا اللاعب الأصيل من لاعبي المشهد السياسي المصري شديد الالتباس، تأجج دورها واشتعل أثرها إلى درجة لم يتوقعها أحد. وبين مذيعين انقلبوا رأساً على عقب من أعتى مناصري النظام السابق إلى أعتى مناصري الثورة، وآخرين تحولوا من أقصى يسار الليبرالية إلى أقصى يمين المشروع الإسلامي، وفئة ثالثة تتأرجح بين يسار ويمين المشهد، ورابعة تعلن الحياد لأن الوطن بات في مهب الريح، وخامسة تدّعي أنها وحدها الناطقة باسم الحق والهداية، مشكِّكة مخوِّنة كل من يعترض أو يحتج. مشهد تلفزيوني شديد التعقيد، لكنه لا يقل تعقيداً عن الشارع. الشارع الذي وقع ضحية الاستقطاب الحاد شديد اللهجة الذي يدّعي نظام الحكم أنه استقطاب صنعته الشاشات الخاصة، رغم أنه في الأصل استقطاب صنع في دوائر الحكم وتم تداوله في دهاليزه مترامية الأطراف، حيث تحول الكثير من المساجد إلى أبواق للتكفير والتشكيك، وهي المساجد وثيقة الصلة بقنوات دينية تساهم في إشعال مشاعر البسطاء. ويصب ذلك في مصلحة جماعات تسعى للسلطة وتهدف إلى الاستحواذ، ولم تجد أسهل من الضحك على البسطاء إلا بإطلاق أيادي حلفاء لهم وحناجرهم على الشاشات. لكن الشاشات تتسع للجميع! وحيث إن مسالة مواثيق العمل الإعلامي ودعوات الالتزام بمعايير الإعلام الحيادي تبدو هذه الآونة أقرب ما تكون إلى مدينة أفلاطون الفاضلة، فإن الأمر كله في يد المشاهد المسكين. يشاهد ما يجري ويتابع ما يحدث ويبتلع ما يقدم له، لكن تظل عملية الهضم تختلف من شخص لآخر. منهم من يسلم لنفسه للقنوات التي تقول إنها مدافعة عن هوية مصر المتحضرة، ومنهم من يترك عقله على باب الغرفة قبل أن يتابع القنوات الدينية المتحولة سياسية، ومنهم من يتابع هذا وذاك فيندد بكليهما ويترك لقلبه الحكم على ما يجري بالنظر إلى الشارع، ومنهم من يمتنع عن كليهما بعد أن أعياه الاستقطاب. شاشات مصر لا تفرق كثيراً عن شوارع مصر! هي «تمرد» وهي «تجرد»! هي «مصر البهية» وهي «مصر المظلمة»! هي مصر المتقدمة صوب الأمام ومصر المتقهقرة صوب الخلف.