في مدينة قيصري وسط الأناضول التركي، يُقرَع باب شقة متواضعة تُطلّ على شارع أساسي، يفتح رب العائلة الباب فيجد شخصين، أحدهما من البلدية والآخر رجل أمن، يقدّمان له علم تركيا ويطلب منه موظف البلدية تعليقه على الشرفة المطلة على الشارع، قائلاً: «السيد رئيس الوزراء (رجب طيب أردوغان) سيمرّ من شارعكم اليوم، في طريقه إلى مهرجان انتخابي، ويحب أن يرى أعلام تركيا في كل مكان». يجيبه رب المنزل: «لكننا لسنا من أنصار حزبه ولم نصوّت له ولسنا معنيين بزيارته»، فيردّ رجل الأمن: «سيكون لطيفاً أن تتعاونوا معنا!» ويهمّ لقرع باب شقة أخرى. في ذاك اليوم، تلقّى عدد كبير من سكان المدينة رسائل نصية تدعوهم إلى الحضور، مع عائلاتهم، إلى المهرجان الانتخابي، لأن ذلك «مهم جداً». وتختلط كلمة «مهم» في رأس موظفي البلدية أو الحكومة في المدينة التي تخضع لإدارة رئيس من حزب «العدالة والتنمية» الحاكم، مع قصص عن طرد عمال من البلدية، بعد تغيّبهم عن تلك المهرجانات. يحدث ذلك في وقت أوردت صحف أن «جهة» في مديرية الأمن أمرت الشرطة في إزمير بفضّ الاعتصامات في أي شكل، ما جعل أعضاء الأمن المدني يحملون عصي ويطاردون متظاهرين، في مشهد يستدعي صور «الشبيحة» في سورية، ويؤمّن معطيات للمعارضة لتشبيه اردوغان بالرئيس السوري بشار الأسد، ما يزعج رئيس الوزراء التركي بشدة، حتى أنه رفع دعوى على رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كيليجدارأوغلو، قائلاً: «يشبهونني بالأسد، وهل مِن ديكتاتور يوافق على تنظيم استفتاء»؟ وتعلّق المعارضة على كلام أردوغان، مذكّرة بأن حزب «البعث» حكم سورية خمسة عقود، من خلال استفتاءات «تجديد البيعة». بعيداً من التشبيهات الصورية المبالغ فيها، بدأت توجهات رئيس الوزراء وتصريحاته وتصرفاته السياسية، تدفع كثيرين للمقارنة بين نظام الحزب الواحد في سورية، وبين سياسات أردوغان التي باتت تعتمد أكثر على الأمن والمقرّبين والإفادة من ثغرات الديموقراطية والهيمنة على القضاء والعسكر، بعد عقد على حكم حزب واحد في تركيا. فالإعلام الذي وقع في قبضة أردوغان، بات في بعض قنواته أشبه بشبكتي «الدنيا» و «الإخبارية السورية»، في توصيف أزمة ميدان «تقسيم» وتداعياتها، عبر محاولات يائسة، بل مضحكة أحياناً، لإثبات نظرية أردوغان بوجود «لوبي» اقتصادي ربوي يقف وراء الأحداث. فتسمع تحليلات تفتقد إلى أبسط القواعد العلمية، إضافة إلى شطحات إعلامية خيالية تبحث عن تفاصيل «مؤامرة دولية»، فيما الأخبار تقتصر في تلك القنوات على صور متظاهرين «مخربين» يهاجمون الشرطة ويحرقون ممتلكات عامة، متجنبة بثّ صورة واحدة لشرطي يضرب محتجاً أو يلقي قنبلة مسيلة للغاز. ونشرت صحيفة «تقويم» خبراً على صفحتها الأولى، ورد فيه أن كريستيان أمانبور، المراسلة الأميركية الشهيرة في شبكة «سي أن أن»، أقرت بأن الشبكة «أجبرتها» على تزييف الحقائق في تركيا، وأنها بثّت أكاذيب ولفّقت أحداثاً عمداً. ثم ينبري رئيس تحرير الصحيفة ليقرّ باختلاقه هذا الخبر، رداً على «أكاذيب سي أن أن»! تشكو تركيا من تجيير قدرات الدولة لمصلحة الحزب الحاكم، فالمحافظون الذين يُفترض أن يكونوا محايدين، وموظفو الدوائر الحكومية والبلدية الذين لا حول لهم ولا قوة، مضطرون للعمل لمصلحة الدعاية الانتخابية للحزب الحاكم... وهذا سلوك جعل كثيرين يحذرون من دمج الدولة بالحزب والحزب بالدولة، بحيث يصعب فصلهما مستقبلاً. هذا التحذير يجد سنداً في معلومات تفيد بأن أهم القرارات المصيرية في الدولة، تُتَّخذ مع مستشارين ومقرّبين يُشترط فيهم الولاء، لا الخبرة. كما تُلاحَظ عودة آفة التعذيب في المخافر، وزيادة حدة تعامل رجال الأمن مع المتظاهرين، في ظل حصانة كرّستها تصريحات لأردوغان أشادت ب «ملحمة بطولية» نفذتها الشرطة ضد المحتجين. وفي الانتخابات يستخدم أردوغان كل الأسلحة ضد خصومه الضعفاء، من الإمكانات المالية للدولة إلى الضرب تحت الحزام، مثل حضّه الناخبين على الامتناع عن التصويت لكيليجدارأوغلو، لأنه علوي، وهذا موقف لو صدر عن شخص غير أردوغان، لمَثَلَ أمام محكمة لاتهامه بازدراء الأديان والتحريض على فتنة طائفية.