يزداد الاهتمام في السنوات الأخيرة بنشر الألبومات التي تشتمل على مجموعات من الصور القديمة بالأبيض والأسود عن مدن أو جماعات وحتى عن بلدان بعينها، وذلك لما تمثله هذه الألبومات من قيمة ومرجعية لدراسات التاريخ الاجتماعي العمراني في شكل خاص. وقد تنبه إلى ذلك «مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية» في اسطنبول المعروف عالمياً باسم «آرسيكا» والذي نشر ألبومات مصورة عن القاهرة والقدس وبورصة العثمانية وغيرها كشفت أو «وثقت» لحظات أو مظاهر ومنشآت لم نكن نعرف عنها أو افتقدناها مع الزمن. وفي هذا السياق صدر في بريشتينا ألبوم «الصورة في كوسوفو 1900 - 1950» لشكري كاتشانيكو (منشورات «كوها») الذي يعتبر تاريخاً للجيل الأول من المصورين الكوسوفيين ومرجعاً عن التغيرات الاجتماعية والعمرانية الكبيرة التي لحقت هذا البلد بسبب التغيرات السياسية المتلاحقة. فقد كانت كوسوفو ولاية عثمانية (قوصوة) حتى 1912، ولذلك تبرز الصور فيه ما كان يربط كوسوفو بلبنان مثلاً، ثم جاءت الحرب البلقانية 1912 - 1913 التي انتهت إلى تقاسم صربيا والجبل الأسود لكوسوفو، وجاءت بعدها الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 لتنهي الحكم الصربي وتكرّس إدارة نمسوية لكوسوفو، ثم دخلت كوسوفو في «مملكة يوغوسلافيا» التي استمرت خلال 1918 - 1941، وضُمّت خلال الحرب العالمية الثانية 1941 - 1945 إلى «ألبانيا الكبرى» لتعود بعدها إلى «جمهورية يوغوسلافيا». إن هذه الحروب والتغيرات السياسية المتلاحقة مهمة بالنسبة لألبوم مرجعي كهذا لأنها تبرز خصوصية كوسوفو من ناحية التي وُجدت في ست دول خلال خمسين سنة كانت لكل واحدة مرجعيتها السياسية والثقافية المختلفة التي حاولت أن تبرزها في هذا البلد. من هنا، تأتي الصور لترصد هذه التغيرات الاجتماعية والثقافية المصاحبة للتغيرات السياسية. ومن ناحية أخرى عايشت كوسوفو خلال نصف قرن ثلاث حروب مدمرة (حرب البلقان والحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية) كانت كافية لتدمير الكثير من المنشآت العمرانية التاريخية، ولذلك يأتي الآن هذا الألبوم ليكشف عن بعض تلك المنشآت التي لم تعد موجودة وليساعدنا في استرجاع المشهد العمراني للمدن التي كانت حاضرة في وقتها وتغيرت ملامحها كثيراً الآن (بريشتينا وبرزرن وجاكوفا). مهّد شكري كاتشانيكو، وهو مصور محترف، لكتابه بفصل عن ظهور الصورة الفوتوغرافية وتطورها في النصف الأول من القرن العشرين، وبالتحديد منذ الصورة الأولى التي أنجزها الفرنسي جوزف نيبس في 1826، وإلى تطوير لويس دغوير هذا الاختراع المذهل في حينه وصولاً إلى اقتراح الأكاديمية الفرنسية للحكومة في 1839 بإقرار قانون لشراء حقوق هذا الاختراع بشرط أن يكون ملكاً للعالم كله. وبعد هذا التمهيد يتابع كاتشانيكو ظهور المصورين المعروفين الذين برزوا بإنجازاتهم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهو الوقت الذي جاب خلاله الرحالة والباحثون قلب البلقان (كوسوفو) وأخذوا أولى الصور الفوتوغرافية عن المنطقة. ولكن معظم الكتاب يعنى برواد الصورة الفوتوغرافية من الكوسوفيين الذين برزوا في السنوات الأخيرة للحكم العثماني في المدن الكوسوفية الرئيسة مثل برزرن وجاكوفا وبريشتينا وبيا وغيرها (أحمد جركا وزف مييدا وحسن زيمي والأخوان شريف ورئيف كورو وفائق شريفي وغيرهم). وعلى رأس هؤلاء كان أحمد جركا (1880 - 1967) الذي ساعده تنقل والده في أرجاء الدولة العثمانية على أن يكتشف عالم الصورة الفوتوغرافية ويحترف التصوير الفوتوغرافي. فقد ولد في اسطنبول حيث أتم المدرسة الابتدائية ثم انتقل إلى سالونيك ليتابع دراسته الثانوية، وانتقل بعدها إلى فيينا لينخرط في الأكاديمية الإمبراطورية العسكرية ولكن عالم الصورة الفوتوغرافية جذبه بقوة فعاد إلى سالونيك ليتشرى آلة تصوير من نوع «دويتش تاليبود» إنتاج 1895 وعاد بها إلى مدينته جاكوفا ليفتح أول استوديو للتصوير. بلغ به الهوس حد أن يزور بعض استوديوات التصوير في بودابست وفيينا وهامبورغ خلال 1900 - 1906. ونظراً إلى علاقته مع فيينا نشط كثيراً خلال الإدارة النمسوية لكوسوفو خلال 1915 - 1918 ووثق في مجموعته الكبيرة للصور الشخصيات العامة من مدينته التي اشتهرت خارج كوسوفو مثل بيرم تسوري ووالي بيروت كامل باشا الذي أظهره في صورة مع أصدقائه في المدينة خلال زيارة له إلى جاكوفا 1905. وتمثل مجموعة أحمد جركا مرجعاً للحياة الثقافية المبكرة في كوسوفو حيث أبرز لنا المدارس الأولى والفرق الموسيقية المرتبطة بها التي برزت خلال الحكم النمسوي إلخ. ولدينا هنا مجموعة كبيرة من الصور العائلية وتلك التي تصور المهن المختلفة (الجنود والفلاحون... إلخ) التي تبرز جوانب الحياة الاجتماعية في ذلك الحين. ومن الجيل الأول للمصورين الكوسوفيين لدينا زف مييدا (1890 - 1955) الذي يتحدّر من أسرة حرفية برز منها اثنان من المصورين (هو وشقيقه لازار). ويبدو أن اهتمامه بالتصوير جاء من اختلاطه مع أسرة أحد موظفي القنصلية النمسوية في مدينة برزرن التي كانت تقطن في الطبقة العلوية لبيتهم. وبعد أن اشتهر في مدينته بعمله في التصوير اضطر بسبب ضغوط السلطة الصربية للهجرة إلى زغرب حيث افتتح هناك في 1938 «استوديو ركس» الذي لا يزال يعمل هناك. تعاون بعد انهيار يوغوسلافيا في 1941 مع «دولة كرواتيا المستقلة» التي قامت آنذاك، ولذلك أصبح ماضيه غير مرغوب به بعد تولي الحزب الشيوعي الحكم في يوغوسلافيا الجمهورية عام 1945 فهاجر إلى الولاياتالمتحدة في 1950 وتوفي في بوسطن 1955. ونظراً إلى كونه من عائلة كاثوليكية معروفة تتميز مجموعته بمجموعة كبيرة من الصور للعائلات الكاثوليكية في المدينة (ماركو وميتا) في مناسبات مختلفة (الأفراح والاتراح) التي تمثل العادات والتقاليد الخاصة بهم. ومن هذه المجموعة لدينا صورة نادرة من 1923 للأختين غونجه وآغه بوياجي بالزي الشعبي لفتيات برزرن في ذلك الحين. اشتهرت غونجه بوياجي فيما بعد باسم «الأم تيريزا» بعد أن ترهبنت وذهبت إلى كالكوتا - الهند. وكانت غونجه تتحدّر من أسرة كاثوليكية معروفة في برزرن ولكن والدها انتقل لظروف عمله إلى عاصمة الولاية (سكوبيه) حيث ولدت غونجه هناك عام 1910 ودرست هناك ولكنها كانت كثيرة التردد على مدينة برزرن بحكم وجود العائلة فيها. وخلال تلك الفترة التي ظهرت فيها بالصورة (غونجه بوياجي أو الأم تيريزا مع أختها آغه) في 1923 كانت غونجه مهتمة بالأدب وتكتب الشعر وتحلم بأن تصبح شاعرة وتعمل معلمة، ولكنها بعد تخرجها في المدرسة الثانوية ترهبنت وأخذت اسم «تيريزا» وغادرت مسقط رأسها في طريقها إلى الهند عام 1928 حيث اشتهرت هناك باسم «الأم تيريزا» إلى حين وفاتها في 1997.