أول ما يلفت النظر في الدورة الجديدة من مهرجان «كارلوفي فاري» التي تُشرّع أبوابها بدءاً من هذا المساء على أكثر من مئة فيلم ترسم أحوال العالم بتخبطاته وأزماته، هو ذاك الشعار المستوحى من الرقم «8»... وكأنّ فيه تحية الى ديمومة السينما و «لا نهائيتها»، إن لم يكن فيه بوح بأن السينما عصيّة على حسابات الزمن. فالرقم «8» الذي يحتضن من حيث الشكل الهندسي الدورة 48 من المهرجان، ليس إلا إشارة الى اللانهاية، ولكن أيضاً الى ما يشبه الساعة الرملية. وعلى هذا النحو، أراد المهرجان منذ البداية، أن يضع مشاهديه على تماس مع فن خالد لا يريد أن يموت... وهو اليوم يثبت ذلك بتنوعه، وجدّة أفلام مسابقته، وبمزيد من الانفتاح على العالم. هذا ما تشي به أفلام المسابقة الرسمية ال14 التي ترسم تخبطات الإنسان في وحدته وعزلته، ولكن خصوصاً في انغماسه في وحول حروب لا رجوع منها، وإن اختلفت المقاربات والانتماءات والهواجس. ولعل نظرة سريعة الى برنامج العروض يمكن أن تقدم صورة وافية عن حجم التنوع في ملامسة المضامين السياسية، سواء باختيار أفلام ذات بعد عقائدي أو أفلام ذات إطار تاريخي أو حتى ذات اهتمام بالعامل الاقتصادي - الاجتماعي الذي لا تزال دول كثيرة ترزح تحت وطأته. ففي الجانب العقائدي، يترقب جمهور كارلوفي فاري فيلم «مكان في الجنة» للسينمائي الإسرائيلي جوزيف مادموني الذي يعود الى هذا المهرجان التشيخي بعد سنتين من مكافأته على فيلم «ترميم» الذي نال عنه جائزة «الكرة البلورية». وإذا بدا فيلمه القديم مشاكساً بعض الشيء لدنوّه من مسألة حساسة ترصد جيلين: جيل قديم يُقدّس الذاكرة وآخر شاب يحاول أن يتجاوزها، فإن الفيلم الجديد قد لا يقلّ مشاكسة عن الفيلم الأول إذا استندنا الى ملخص القصة. ومنذ القراءة الأولى، يمكن القول إننا أمام نسخة مضادة من الفيلم السابق، أو بكلام آخر يطل في الفيلم الجديد صراع الجيلين مجدداً، ولكن هذه المرة بطريقة معكوسة: جيل الآباء في اسرائيل متحرر من قيوده فيما جيل الأبناء متمسك بها من خلال حكاية تدور قبل 40 سنة حول ضابط يهودي شاب يعود الى قاعدته العسكرية ظافراً بعد مهمة حرجة. لكنّ بطولاته هذه، تجعله عرضة لحسد كثيرين، ومنهم طباخ ملتزم دينياً، يؤمن في قرارة نفسه بأن هناك مكاناً في الجنة محجوز للضابط الشجاع كونه عرّض نفسه للخطر من أجل إخوته اليهود. ومقابل وجبة «شاكسوكا» يوقّع الضابط العلماني وغير المؤمن عقداً يمنح فيه مكانه الموعود في الجنة للطباخ الناجي من الهولوكست. وسرعان ما تمرّ 40 سنة، ليجد المشاهد نفسه أمام الضابط غير العابئ بكل هذه المعتقدات وهو على فراش الموت في المستشفى بعدما أصبح جنرالاً متقاعداً، لتكون الضربة المسرحية بما آلت إليه أوضاع ابنه الملتزم دينياً، والذي يسابق الزمن للعثور على الطباخ الذي اشترى مكان أبيه في الجنة، بهدف إلغاء العقد قبل وفاة الوالد، وإلا سيكون مصيره النار (!). طبعاً لا يمكن الحكم على الفيلم من ملخصه فحسب وإن كان يشي بصورة قاتمة عن أجيال شابة تنحو أكثر فأكثر نحو التشدد، في الدولة العبرية كما في غيرها. من إسرائيل الى ألمانيا ومن اسرائيل تنقلنا المسابقة الرسمية الى ألمانيا حيث يلاحق المخرج أوسكار روللر ثلاثة أجيال ترسم تاريخ ألمانيا من حقبة ما بعد الحرب حتى عام 1980، بالاتكاء على سيرته الذاتية مذ كان طفلاً غير محبوب لأبوين مفكرين بوهيميين يمارسان الكليشيه السياسي الذي كان سائداً في سنوات الستين، وصولاً الى تحوله الى شاب متحرر لا يرحم بتعريته المجتمع ونظرته الساخرة. ولا تبتعد تعرية المجتمع عن الفيلم الإيسلندي «إكس أل» للمخرج مارتن بورسون. فهو، وإن كان يصوّر سيرة نائب فاسد في البرلمان الإيسلندي، غارق في ملذات الحياة، إنما يرسم أيضاً صورة بلد في أزمة. أزمة من نوع آخر، يطرحها المخرجان الروسي يوسوب رازيكوف والإيطالي روبرتو أندو. الأول يقترب في فيلم «عار» من عالم نساء بلا رجال ينتظرن في قاعدة عسكرية في روسيا الشمالية عودة أزواجهن سالمين. والثاني يطرح في فيلم «تعيش الحرية» أزمة حزب معارض في إيطاليا يختفي رئيسه بعد أن يُخفق في الشارع. ولإنقاذ الموقف وتفادياً لأي إحراج، يقرر مستشار الحزب معالجة هذه السقطة بإحلال شبيه له مكانه. ولكن، إذا كان البديل يشبه الأول في الشكل، فإنه يبتعد عنه بأشواط في المضمون، ما يُكسب الحزب أصواتاً في الشارع بفضل انفتاح «الرئيس» الجديد ومواقفه الشجاعة. ولا يغيب شبح الحرب العالمية الثانية عن الفيلم الهنغاري «الكتاب الكبير» للمخرج جانوس ساز الذي يصوّر يوميات توأم في الثالثة عشرة من عمرهما، يُجبَران على تمضية السنة الأخيرة من الحرب مع جدّتهما في مكان قريب من الحدود الهنغارية. كما تطل الحرب الأهلية في انكلترا من خلال الفيلم البريطاني «حقل في انكلترا» للمخرج بين ويتلي الذي يصوّر قصة هروب مجموعة من الرجال من إحدى المعارك المستعرة، قبل أن يُلقى القبض عليهم ويجبرون على البحث عن كنز مدفون في أحد الحقول، لتكون في انتظارهم مفاجأة كبيرة. حرب من نوع آخر، نصادفها في الفيلم الفرنسي «11-6» للمخرج فيليب غودو الذي يصوّر قصة حقيقية جرت أحداثها في ليون في فرنسا عام 2009. أما بطلها، أو «اللابطل» فيها، فهو طوني موسولين الذي صار حديث الصحافة بعدما تحوّل من عامل نموذجي لم يرتكب خطأ واحداً طوال عشر سنوات في عمله في نقل الأموال، الى سارق مطلوب للعدالة بعد استيلائه على 11.6 مليون يورو من دون أي ضجة أو عنف. ولا يكتفي هذا الفيلم بتصوير هذا التحوّل في مسيرة الرجل القابع خلف جدران زنزانته، بل يرصد أيضاً تأثير الأزمة الاقتصادية، خصوصاً أن الأحداث تدور في أوجّ الانهيار، ما جعل طوني يبدو بالنسبة الى كثيرين، روبن وود جديداً ب «سرقته أموال السارقين». غارق في وحدته ولا تقف أفلام المسابقة الرسمية عند تخوم السياسة فحسب، بل تدنو أيضاً من إنسان المجتمعات الحديثة وهو يغرق أكثر فأكثر في وحدته. وهنا يطل الفيلم اليوناني «أيلول» (من إخراج بيني بانايوتوبولو) الذي يسلط الضوء على فتاة ثلاثينية، لا يهمها شيء في هذه الحياة سوى كلبها مانو. لكنّ حادثاً مفاجئاً ينتشلها من وحدتها ويجعلها تتذوق طعم السعادة وتتمتع بدفء العائلة حين تتعرف إلى «صوفيا» وعائلتها السعيدة لتكتشف حجم الفراغ الذي كانت تعيشه من حيث لا تدري. فراغ شبيه يعيشه الطبيب «ألفريدو» في الفيلم الإسباني «قيمة الوقت» للمخرج خافيير بيرموديز بعد وفاة زوجته وهي صغيرة في السنّ. فالرجل الذي أضحى عجوزاً لم يتوقف بعد 40 سنة من خسارة حبيبته عن الإيمان بالطب وبقدرته على استعادتها، ولهذا لا يزال يحتفظ بجثتها مبردة... بما أن المسألة في نظره ليست إلا مسألة وقت. ولعامل الوقت دوره أيضاً في فيلم التشيخي جان هريبتش «شهر العسل» الذي يصوّر زفافاً ينقلب رأساً على عقب عندما يخترقه شخص من غير المدعوين لتفسد أشباح الماضي أكثر الولائم بذخاً وأكثر العلاقات تماسكاً. ولا يبتعد الفيلم البولندي «بابوتزا» (من إخراج جوانا كوز كروز وكريستوف كروز) عن تيمة الوحدة، وإن كان يصوّر سيرة الشاعرة الرومانية المعروفة باسم «بابوتزا» والتي تعدّ إحدى أشهر الشاعرات في بلادها. فهذه المرأة التي كانت حياتها حافلة بالغموض، سرعان ما نبذها قومها كونها «خانت أسرار رومانيا القديمة، ثقافة وعادات». ولا يكتفي المهرجان بالأفلام الجديدة، بل يقدم لجمهوره سلّة من الأعمال التي سبقها صيتها الى هذه المدينة الساحرة، بعدما حظيت بالإعجاب في مهرجانات دولية، مثل أفلام الإيراني جعفر بناهي والفرنسي فرانسوا اوزون والصيني وانغ كار واي والإيطالي باولو سورنتينو والتشادي محمد صالح هارون. ولا تغيب الأفلام العربية عن هذه الدورة، بل تحضر في 3 أعمال، هي: «وجدة» للسعودية هيفاء المنصور و «عمر» للفلسطيني هاني أبو أسعد (يعرضان في تظاهرة «رؤية أخرى» التي تضم 29 فيلماً) إضافة الى فيلم «الميراث» للفلسطينية هيام عباس (يعرض في فئة «آفاق» التي تضم 31 فيلماً). أما السجادة الحمراء، فتنتظر هذا المساء النجمة الفرنسية أودري تاتو التي تقدم جديدها للجمهور التشيخي: فيلم «زبد الأيام» لميشال غوندري، ليكون الختام بعد 10 أيام مع فيلم «خلف الشمعدان» لستيفن سودربرغ والذي سبق ان حقق نجاحاً لافتاً في الدورة الأخيرة لمهرجان «كان» إنما من دون ان يحصد اية جوائز - راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة-.