لا حشود غفيرة على السجادة الحمراء في كارلوفي فاري... ولا نجوم تغمرهم الأضواء أو يتسابق المصورون الى التقاط صورهم... التظاهرات امام أبواب الصالات. و «النجوم» هم آلاف محبي الفن السابع، ممن لا يجدون مانعاً من الوقوف في طابور طويل على لائحة الانتظار لساعات، علّ الحظ يبتسم لهم، ويجدون مكاناً شاغراً في الصالات المعتمة. لكنّ هذا لا يعني ان عدسات مصوري المشاهير خارج الخدمة... ففي كارلوفي فاري النجوم موجودون أيضاً، ولكن بعيداً من الاستعراض. جودي دنش، مثلاً، موجودة هنا لنيل الكرة البلورية. وجون مالكوفيتش للمشاركة في عرض أزياء طريف. ودايفيد مورس لتقديم فيلم جديد. اما جود لو وأندي غارسيا وميلوش فورمان وداني ديفيتو وهارفي كيتل، فحضورهم لافت في هذه الدورة، وإن من خلال شرائط دعائية قصيرة للمهرجان، تمر قبل بدء العروض، وتصوّر بذكاء وسخرية، «الفوائد المتعددة» للكرة البلورية التي نالها كل واحد منهم في سنة من السنوات في كارلوفي فاري. الفكرة الأساسية وراء هذه الشرائط تتلخص بالآتي: ماذا يحلّ بمجسمات الجوائز بعدما تغادر المسرح؟ أندي غارسيا، مثلاً، وجد في التمثال، حلاً مثالياً لخلع باب منزل، وجود لو، استعان بتمثاله ليتربع على مقدمة سيارته بعدما سرقت منها علامتها التجارية... وعلى هذا المنوال تسير الشرائط الدعائية للمهرجان بسخرية قد تشي بأن السينما هي الحضور والظاهرة في كارلوفي فاري لا الجوائز والبهرجة... أو، للأمانة، هي جزء من الظاهرة لأن الجزء الثاني هو الجمهور. ففي عاصمة السينما التشيخية - والعالمية لأيام قليلة -، ربما يصح القول ان الفرجة الأساس هي الجمهور. ولا عجب في ان الجمهور التشيخي الشاب (تحت سن 25) يعتبر في اوروبا من أكثر الشبان حباً للسينما. وليس هذا بالأمر الجديد، كما انه ليس، بالتأكيد، إرثاً شيوعياً، بل على العكس. ذلك ان التاريخ يشي بأن اول الشبان في تشيكوسلوفاكيا الذين انتفضوا ايام «ربيع براغ» على النظام الشيوعي والتدخل السوفياتي في بلادهم، كانوا من السينمائيين، سواء كانوا مبدعين او من أعضاء نوادي السينما. وبهذا ارتبطت السينما بتلك الانتفاضة. وأكثر من هذا، حدث في تلك السنوات ان بارح كثر من السينمائيين التشيخيين المبدعين البلاد قاصدين أميركا أو اوروبا. وبسرعة صار كثر منهم من كبار سينمائيي العالم (ميلوش فورمان، ايفان باسير، فيرا شيتيلوفا، يان نيميتش... الخ). والأهم من هذا ان النسيان لم يطوهم بعدما «انتفت الحاجة الغربية اليهم كمنشقين»... بل ظلوا كباراً بين اهل السينما سواء عادوا الى بلادهم ام بقوا في الخارج. شبان ومشجّعون من هنا، وانطلاقاً من هذا الارتباط في أذهان الشبان التشيخيين بين السينما والحرية، يمكن دائماً توقع ان يكون الجمهور السينمائي في كارلوفي فاري، جمهوراً شاباً متحمساً. واللافت ان هذا الجمهور يأتي، قبل اي شيء آخر، ليشجع أفلاماً من بلاده لم يسبق عرضها... أو أفلاماً تعيد إليه ذاكرته، خصوصاً ان إحصاءات كثيرة تفيد بأن شبان تشيخيا هم من اكثر هواة السينما في العالم، اهتماماً بسينما بلادهم. والأكيد ان كارلوفي فاري يشكل منبراً مهماً لتلمّس ما يكمن خلف هذا الواقع... وما يدفع ألوف الشبان الى المجيء من شتى انحاء البلاد، كل يحمل حقيبته فوق ظهره، وربما فراشه لينام كيفما اتفق، في صالات يخصصها المهرجان لذلك، أو في قاعات مدارس، أو في الساحات العامة... وهمّه الأساس ان يشاهد أفلاماً. وإذا كان همّ مشاهدة ما هو محلي هو الاول، فإن هذا الواقع لا يمنع من ملاحظة إقبال جماهيري شبابي على افلام آتية من بلدان أخرى... فالشباب التشيخي يحب أيضاً الاكتشاف... ويعتبر «اكتشاف» ما سبق أن سمع عن عرضه، مثلاً، في مهرجان مثل «كان»، جزءاً من مهماته. فهو حين يتدافع عند كل عرض لفيلم كان سبق ان أثبت حضوره في دورة «كان» الأخيرة - ونخص هذه بالذكر لأن دورة كارلوفي فاري تعرض أكبر عدد ممكن من الأفلام الأساسية التي عرضت في المهرجان الفرنسي -، فإنه يعرف سلفاً ان ثمة سعادة في انتظاره... لا بسبب الفيلم نفسه، بل لأنه - ومهما سيكون رأيه في الفيلم - يشعر انه صار في قلب حركة السينما في العالم. من هنا لا يعود غريباً ان تجد طابوراً طويلاً على لائحة الانتظار امام أفلام مثل «شجرة الحياة» لتيرنس مالك (الفائز بسعفة «كان» الذهبية) و «ولد على الدراجة» للأخوين داردين، وتحفة الكوري لي دوك «آيرانغ» و «اليوم الذي يصل فيه» و «هانيزو» لناومي كاوازي و «ذات مرة في الاناضول» لنوري بلغي جيلان، من دون ان ننسى الجديد الآتي من «الشقيقات السابقة»، روسيا او المجر أو سواهما... فهذا كله، بالنسبة الى هذا الجمهور، صورة متكاملة لسينما العالم. السينما كما يصنعها العالم. وفي مثل هذا الإطار قد يكون مفيداً ملاحظة ان جمهور الشباب العريض، الذي يضفي على سينمائية المدينة مسحات ثقافية «سينيفيلية» حقيقية، أولاً من خلال اختياره العروض، ثم من خلال ردود فعله في الصالة، وبعد ذلك من خلال مناقشاته المتواصلة حول الأفلام التي شاهدها والتي يريد ان يشاهدها، هذا الجمهور الشاب لا يتوقف عن النقاش حتى في المطاعم والمقاهي. إذ حتى وإن كنت - مثلاً - لا تتقن لغة اهل البلاد، يكفيك ان تجلس في اي مكان عام قرب مجموعات الجمهور الشاب، لتسمع نقاشاً صاخباً، وستفهم من خلال اسماء الأفلام والمخرجين وبعض المصطلحات الفرنسية والانكليزية، ان الحديث هنا متواصل عن الأفلام. وللمناسبة لن يفوتك ان تشعر بسعادة خفية حين يصل الى مسمعك من هذه المجموعة او تلك كلمة لبنان او فلسطين الحاضرين في المهرجان في عدد من الافلام. فالواقع ان الجمهور العريض هنا قد يكون مهتماً بسينماه المحلية، فخوراً بها، لكن هذا لا يمنعه من الحديث المتواصل عن اكتشافاته الجديدة الكوزموبوليتية. السينما قضية اساسية والاكتشافات هنا، ليست قليلة، بخاصة انها متاحة للجميع في مهرجان لا يفوت قاصده ان يلاحظ بسرعة انه للجميع، فلا فرق فيه بين سينمائي وناقد وصحافي ومتفرج شاب، ما يجعل القضية الأساس هي السينما. وعلى هذا النحو، كان محقاً ذلك الناقد الذي قال مرة، قبل ان نكتشف بدورنا غنى هذا المهرجان وتنوعه وبعده السينمائي الخالص، ان في كل مرة يخامره فيها شك حول حاضر الفن السابع ومستقبله وصفائه السينمائي، يذهب الى كارلوفي فاري، فيعود الى إيمانه السينمائي، ولو... الى حين. فإلى اي مدى تلامس أفلام المسابقة هذا الواقع؟ إذا كان الجمهور التشيخي اختار مشاهدة افلام المسابقة الإثني عشر للتعرف أكثر الى الآخر من خلال عيون مخرجين من حول العالم، فإنه بالتأكيد لم يجد ضالته في غالبية افلام المسابقة. ومع هذا، يمكن التأكيد ان ظنه لم يخب، خصوصاً ان أفلاماً كثيرة استطاعت ان تنتزع تصفيقه، والأهم ان تحرك لديه أسئلة، ليس فقط حول الآخر، ولكن حول الطبيعة البشرية نفسها، التي لا تختلف بين شاب تشيخي أو ألماني او اسباني او اميركي. فمثلاً، في الفيلم الإسباني المميز «لا تخافي»، يمكن ان تكون البطلة منتمية الى اي جنسية اخرى، بما ان الهوية ليست الأساس، إنما الطبيعة البشرية، التي جعلتها ضحية سفاح القربى، ومزقتها إرباً. ومثلها بطلة الفيلم الألماني «شروخ في الصدفة» قد نجدها في اي بيت، بانكساراتها وخيباتها وحاجتها الى العاطفة بعد تحوّل اهتمام والدتها الى شقيقتها المعوّقة، ما جعلها في حاجة للهروب الى عالم خيالي بموازاة العالم الحقيقي من خلال اللجوء الى المسرح والتماهي وشخصية «كاميل» المسرحية. ولا يختلف عنها كثيراً بطل الفيلم الأميركي «متعاون» الذي استحق تصفيق الجمهور، فهو مخرج مسرحي مشهور، يختلط لديه الواقع بالخيال، الى درجة يكاد يؤمن بأنه يعيش داخل مسرحية. باختصار، شخصيات منكسرة تتقاسم بطولة غالبية افلام المسابقة التي تتنافس في ما بينها غداً في السهرة الختامية من المهرجان. لكنها ليست من طينة الأبطال السلبيين، ذلك انها في انكسارها - في حالات كثيرة - تستمد قوة تجعل صاحبها ينتفض على واقعه سعياً للأفضل، ما يحرّك لعبة التماهي بين الجمهور والشخصيات الواقفة خلف الشاشة في تشديد جديد على ان السينما ليست فقط انعكاساً للحياة، إنما هي الحياة نفسها. «حرائق» لبنان في صدارة خيارات المتفرجين «صُعقت عندما عرفت ان فيلم «حرائق» يتناول الحرب اللبنانية، إذ ظننت أول الأمر انه يتحدث عن حرب خيالية»... بهذه الكلمات يُبادر الشاب التشيخي في الكلام حين يعرف انك لبناني قبل ان يبدأ بطرح الأسئلة عليك حول رأيك بالفيلم، وهل هناك مبالغات. ولا تلبث ان ترى علامات الارتياح على وجهه حين تخبره انك تشاركه الإعجاب نفسه بهذا الفيلم الكندي الذي عرف كيف يصوّر بإتقان جنون الحرب اللبنانية وعبثيتها من خلال قصة إنسانية قد تكون أقرب الى الميثولوجيا الإغريقية. ولا يختلف رأي هذا الشاب التشيخي عن رأي كثر من جمهور كارلوفي فاري. ففي خيارات الجمهور لأفضل خمسة أفلام معروضة في كل أقسام المهرجان، حلّ «حرائق»، حتى كتابة هذه السطور، في المركز الأول، متفوقاً على الفيلم الأميركي المميز «متعاون» الذي حلّ ثانياً، والفيلم الألماني المتقن «شروخ في الصدفة» الذي حلّ ثالثاً. واللافت ان الفيلمين الأخيرين عرضا ضمن خانة أفلام المسابقة الرسمية، فيما عرض «حرائق» المأخوذ عن نص مسرحي للبناني وجدي معوض في إطار استعادة لعدد من أفلام المخرج الكندي دينيس فيلنوف ولعل في ملاحظة الشاب التشيخي تكمن قوة الفيلم الذي ارتأى ان يتناول حرب لبنان من دون ان يسمّيها، للتشديد على ان بشاعة الحرب واحدة وإن اختلف المتقاتلون. طبعاً قد تبدو الإشارات الكثيرة التي يتضمنها الشريط حول مكان النزاع عصيّة على الجمهور الغربي غير العارف بنزاعات منطقتنا، لكنّ هذا لا يهمّ كثيراً، لأن اهمية هذا الفيلم بالذات انه قريب وبعيد من لبنان، بالمستوى ذاته. فالمهم، هنا أيضاً، سبر أغوار النفس الإنسانية للتعرف أكثر فأكثر الى الطبيعة البشرية، وبالتالي التعرف أولاً الى «الأنا» وما يمكن ان تمارسه من ارتكابات وفظاعات، قبل ان نسأل عن «الآخر».