فجأة ومن دون مقدمات، وفي ما يشبه الاتفاق الضمني، ركزت برامج «التوك شو» أخيراً في مصر في غالبية مواضيعها وفقراتها الرئيسة على قضايا اجتماعية وإنسانية وفنية وترفيهية، وابتعدت من جرعات السياسة وسخونتها ومشاكلها بعدما كانت شغلها الشاغل طوال الفترة الماضية، الى درجة أن بعضها كان يتفنن في سكب «البنزين» فوق أي «رماد» فيه شبهة سياسة، لإشعاله مجدداً. ويبدو أن معدّي هذه البرامج، استبدلوا بأجنداتهم التي تحوي أرقام هواتف خبراء ومحللين سياسيين واستراتيجيين وعسكريين، أخرى تضم هواتف رياضيين وفنانين ومخرجين ومنتجين يتحدثون عن إمكان وصول منتخب مصر إلى نهائيات كأس الأمم الأفريقية المقبلة، وإيرادات أفلام عيد الأضحى، وصراعات آل السبكي والموزع محمد حسن رمزي في الاستحواذ على كعكة الإيرادات، والتركيز على مواضيع كانت تعالج بهامشية شديدة من عينة السيدة التي وضعت مولودها أمام مستشفى حكومي، أو تناول الجهاز الفني لنادي «الزمالك» الشاي بالحليب أثناء مباراته مع فريق «وادي دجلة»، ومشاكل مشجعي كرة القدم «الألتراس». «الحياة» استطلعت آراء عدد من الإعلاميين ومعدّي البرامج، وسألتهم عما إذا كان ما يحدث توجهاً أم توجيهاً لإدارات الفضائيات من جهات ما. ويقول الأمين العام لغرفة صناعة الإعلام علاء الكحكي: «أنا مندوب إعلانات ولا يهمني إلا الشق التجاري فقط، ولا أتحكم في التوجه السياسي للقناة، ومن يتحكم في ذلك هو إدارة القناة، ولا بد من أن توازن بين المعروض فيها بغرض التثقيف وخدمة الجمهور والربح التجاري». وأضاف: «القوانين المنظمة للإعلام يجب أن تكون حاسمة وضامنة لحقوق الجميع، استناداً إلى أمثلة ناجحة من بلدان متقدمة، وأن تكون متوافقة في الوقت ذاته مع المجتمع من دون تحيز لأحد ومن دون تسيب أو تقصير رقابي». ورأى الكاتب والإعلامي أحمد رفعت ان «المطلوب هو تحمل المسؤولية التاريخية والأخلاقية أمام أوضاع استثنائية تعيشها مصر، من سنوات الاضطراب الكبير إلى عصر جديد للبناء وتعويض ما فاتها، وكذلك التصدي لموجة إرهابية عاتية تحتاج الى وقفة واحدة من المجتمع، والإعلام في وسطه، وللأسف هو أراد تكحيلها فأعماها، واستبدل الهيافة بالأداء والاستخفاف القديم في حسابات خاطئة لم يطلبها النظام الحالي، معتقداً أن الهروب إلى البرامج والموضوعات الخفيفة قد يبعد هذه القنوات من دائرة الخطأ، لأن التلطيف لا يكون بتحويل فلسفة كل قناة أو تغيير هويتها فيما يظنون انه انتظار وترقب لما يجري وحتى الانتهاء من تشريعات الإعلام الجديدة». وقال الكاتب والإعلامي محمود عبدالرحيم: «يبدو أن هناك رغبة في العودة إلى الإعلام الموجّه الذي ينأى بنفسه عن السياسة ويركز أكثر على المنوعات والمواضيع المثيرة اجتماعياً مثل التحرش أو ضحايا الأخطاء الطبية أو مشاكل المدارس أو التركيز على برامج الطهو وكرة القدم ومشاهير الفن كنوع من الإلهاء للجماهير أو خوفاً من استثارة السلطة، خصوصاً أن الرئيس السيسي يتحدث طوال الوقت عن الإعلام الملتزم الذي يجب ألا يخوض كثيراً في نقد المسؤولين، فضلاً عن أن معظم الفضائيات يملكها رجال أعمال لهم مصالح مع السلطة ولا يريدون الخوض في أمور قد تجلب لهم متاعب». وتوقع أن يستمر هذا التناول مستقبلاً، وقال: «هم يتعاملون بمنطق التسويق، إذا لم يقتنع الجمهور بهم اليوم، فإنه سيقتنع بخطابهم غداً تحت الإلحاح المستمر، مع الرهان على الغالبية غير المسيسة والقليلة الوعي، والاهتمام مجدداً ببرامج المنوعات والرياضة التي تراجعت أسهمها خلال السنوات الثلاث الماضية لمصلحة النشرات الإخبارية وبرامج التحليل السياسي تماشياً مع الأجواء الثورية التي تتلاشى تدريجاً». وأشار الإعلامي خالد حسنين الذي يشارك في إعداد برنامج «يحدث في مصر» لشريف عامر على فضائية «أم بي سي مصر» إلى أن الجمهور يتجه صوب الفقرات الخفيفة التي تتنوع بين الفن والمنوعات والرياضة، وقال: «الناس ملّت من السياسة على مدار ثلاثة أعوام كانت أخبار التظاهرات والقتل والتوتر هي أسلوب حياة ونغمة سائدة، واتسمت الأخبار بالسواد، لكن الأمور بدأت تتغير والناس أصبحت تشاهد الأفلام والمسلسلات ومباريات الكرة. ومن هنا، فإن برامج ال «توك شو» تحاول إسعاد المشاهد وإرضاء رغباته طالما أنها اتجاهات مقبولة وعادية، ولا بد من احترام مزاج الناس واهتماماتهم، وهذا يحدث في العالم كله، إلى جانب التركيز على مواضيع اجتماعية وإنسانية تحظى بالاهتمام، باعتبارها تحمل العبر والتجارب التي يتابعها الناس بالدهشة والاهتمام، مثل حالات التفكك الأسري، أو قتل الأبناء وحوادث المدارس التي وقعت أخيراً لتنبيه المسؤولين إلى ما يجري وتدارك تلك الأخطاء مستقبلاً، وهذا هو دور الإعلام». ونفى وجود توجيهات للابتعاد من تناول مواضيع معينة، وقال: «هذا لا يحدث، بدليل استضافة محللين سياسيين في بعض البرامج، ثم ان قضايا الفساد والإهمال يتم تناولها يومياً، ولميس الحديدي طالبت في برنامجها بضرورة إقالة وزير التعليم بسبب إهمال المدارس، وفي برنامجنا نستضيف محافظين ورؤساء أحياء ونواجههم بمشاكل الجمهور».