إنه شعور لعبة الملاهي الشهيرة «قطار الموت»: انحرافات سريعة، منحدرات خطيرة، منحنيات حادة، سرعة هائلة، تباطؤ فجائي ينذر بكارثة، دقات متسارعة، أنفاس محبوسة، وفجأة انطلاق بسرعة مذهلة تفقد الجميع توازنه فيرفع كلتا يديه صارخاً من الرعب وطالباً الغوث في وقت لا ينفع فيه الغوث بعدما ضغط مشغّل القطار على زر الانطلاق. هذه هي حال الشارع المصري، مع فارق بسيط، وهو أن ركاب قطار الموت في الملاهي يركبونه برغبتهم الخالصة، في حين أن ركابه في مصر حالياً بعضهم ركبه برغبته وكثيرون ركبوه رغماً عنهم. ولأن قطار الموت بلا قائد، ولأن العامل الذي يجلس في المقدمة هو مجرد واجهة للقطار، فإن ركابه يعلمون علم اليقين أنهم بين يدي الله ومن بعده في قبضة المشغل الذي يضغط على زر التشغيل. الضاغط على زر تشغيل ميكروفون خطاب الرئيس محمد مرسي الموجه إلى المصريين مساء أمس، هو نفسه الضاغط على زر الخطاب الإعلامي المحمل الإشاعات مسؤولية نقل آلاف المواطنين محال إقاماتهم من بيوتهم إلى الشوارع المحيطة بمحطات الوقود، وهو نفسه الضاغط على حياة المصريين بإغراقهم في بحر الظلمات سالباً إياهم الحق في تشغيل المراوح الكهربائية ناهيك عن أجهزة التكييف في صيف ساخن جداً، وهو نفسه من يصر على أن يطل الحكم على ملايين المكبوتين القرفانين المكتئبين المحبطين مستفزاً أعصابهم ومستنفراً مشاعرهم وفاقعاً مراراتهم بحمل بشرى سارة تهز القلوب وترج العقول بأن الرئيس مرسي كلف المحافظين بسرعة تلبية حاجات المواطنين. لكن المواطنين الذين احتشدوا في شوارع القاهرة الكبرى أمس لم ينتظروا المحافظين لتلبية حاجاتهم التي مالت تجاه التخزين خوفاً مما هو آت بعدما ظهرت الخبرة الثورية واضحة لدى كثيرين ممن استخدموا ما تبقى لديهم من مدخرات أتى «عصر النهضة» على معظمها لشراء مواد غذائية وتزويد سياراتهم بالوقود، الذي أكد المسؤولون أن اختفاءه إشاعة لا أساس لها من الصحة. صحة المصريين النفسية التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الجنون لم تعد تحتمل أي نوع من أنواع الترقب، حتى ترقب موعد خطاب الرئيس، الذي شغل ملايين من قبل لم يشغل بالهم كثيراً أمس لأسباب عدة تتراوح بين فقدان الأمل في المحتوى وضياع الأماني في الإطار واليأس التام من قدرة الجماعة وحلفائها، أو ربما رغبتها، على رؤية ما يحدث على أرض الواقع. وعلى أرض الواقع كانت الكتل الخرسانية وصلت إلى بوابات قصر الاتحادية لتحمي أول رئيس مدني منتخب لا يخشى شعبه ويفاخر قبل عام إلا ثلاثة أيام بالتمام والكمال أنه لا يرتدي قميصاً واقياً ضد الرصاص. إلا أن الرصاص لم يعد فقط متمثلاً في الطلقات التي تخرج من فوهات البنادق والمسدسات، لكنه يتخذ أحياناً شكل رأي ديني كذلك الذي أطلقه خطيب مسجد القائد إبراهيم في الإسكندرية الشيخ أحمد المحلاوي أمس، بأنه لا يجوز الخروج على الحاكم إلا في حال الكفر، وهو ما يعني أن الخروج على الرئيس السابق حسني مبارك كان حراماً. كما تتمثل الرصاصات في حملات منظمة تشنها أذرع نظام الحكم المختلفة لبث نيران الفرقة والتشكيك والتخوين بين صفوف المصريين. هذه الأذرع تروج لفكرة إن كل من يفكر في النزول إلى الشوارع والميادين للاحتجاج على الفشل الذريع للرئيس في إدارة شؤون البلاد هو إما «فلول» أو «ثورة مضادة» أو «بلطجية»، وهو ما يعمق الفجوة التي أحدثها نظام الحكم الديني أكثر فأكثر. طوابير الوقود التي ترفع شعار «مصر التي في محطة البنزين» ونظيرتها المصطفة أمام ماكينات الصرف الآلي والمخابز حفلت أمس بكم هائل من المناقشات والأحاديث التي عرجت على كل ما حدث في مصر خلال عام مضى. صحيح أن بعضهم كان يميل إلى نظريات «المعارضة التي أفشلت الرئيس» أو «الفلول الذين أفشلوا الرئيس» أو «التركة الثقيلة التي أفشلت الرئيس» أو «الإعلام الفاجر الذي أفشل الرئيس»، إلا أن أحداً لم يختلف على فشل الرئيس. وعلى رغم أن جماعة الرئيس، على ما يبدو، هي الوحيدة التي لا ترى هذا الفشل، إلا أنها تشعر به وتعيشه. أجواء مصر أمس وحدت الجميع على قلب رجل واحد، لكنه قلب موجوع مكلوم منقسم إلى نصفين بمباركة نظام الحكم. المشاهد كلها تؤكد أن الجميع يستنسخ تصرفات وقرارات وخططاً وحّدت المصريين في كانون الثاني (يناير) 2011. تأمين البيوت، ملء دولايب التخزين، تجهيز ما تيسّر من عصي خشبية وما خفي كان أعظم، ومشاهدة خطاب الرئيس عن إنجازات وتحديات عام مضى في الشوارع، لكنها مشاهدة هذه المرة عبر شاشات «إخوانية» للأنصار الذين يباركون كلمات الرئيس بغض النظر عن المحتوى، وشاشات غير «إخوانية» لمصريين باتوا يرمقون الرئيس باعتباره «رئيساً لكل الإخوان». أما الجيش، الذي يقف حالياً في خانة تختلف عن تلك التي وقف فيها في كانون الثاني (يناير) 2011، فإن الجميع ينظر إليه وإلى مدرعاته التي انتشرت في مناطق حيوية عدة، بعيون بعضها يملأها الإحباط والرغبة في الخلاص من أولئك ولو كان هؤلاء هم البديل، وأخرى يملأها الأمل في الخلاص من أولئك والمضي قدماً في مصر مدنية لا هي دينية ولا هي عسكرية تتسع لكل المصريين، وثالثة يملأها الشك والخوف من أن يتم الخلاص من أولئك، ظناً أن هؤلاء جاؤوا لإقامة الخلافة الإسلامية وضمان الطريق إلى الجنة. إنه «قطار الموت» يلهو بالمصريين من دون قائد.