هناك ارتباك كبير سيلفّ مجمل المشهدين الداخلي والإقليمي العربي في عصر الثورات، عكسه الموقف المعلن للرئيس المصري محمد مرسي في الخطاب الذي ألقاه في «مؤتمر الأمة المصرية لدعم الثورة السورية»، والمتعلق بقطع العلاقات مع النظام السوري واستعداده لإرسال قوات نظامية أو ميليشيات لمؤازرة «الجيش الحر»، فهناك ثلاث ملاحظات مهمة كشفها هذا الموقف. الملاحظة الأولى تكمن في الضغوط المتبادلة بين الحكم والمعارضة المصرية بشأن ملف الثورة السورية، حيث المعارضة انتقدت بعنف موقف مرسي، وتلك إشكالية ذات وجهين، فالمعارضة التي شكلت النواة الأولى لثورة يناير الديموقراطية الاحتجاجية تنتقد مرسي لأنه قطع علاقاته مع نظام الأسد الديكتاتوري الذي يقمع ثورة شعبه باستخدام القوة، كما أن الرئيس مرسي يريد في المقابل أن يكون هذا الموقف من النظام السوري بمثابة البداية الجنينية لأخونة الحال القومية بحلول جماعة الإخوان كبديل للنظم القومية التي قادت محور الممانعة، وعلى رأسها النظام السوري الذي سيمثل سقوطه فرصة تاريخية لإخوان سورية. أما الملاحظة الثانية، فتتمثل في توافر البيئة الحاضنة لتفتيت المنطقة العربية، انطلاقاً من هذا التدخل المصري المباشر في الشأن السوري، لأنه ببساطة مدفوع بمخاوف الإسلام السلفي في مصر من التشيع، لا سيما وأن حزب الله اللبناني أصبح جزءا من المشهد المتأزم في سورية، ومن ثم فإن مقدمات هذا الصدام السُّني الشيعي المباشر تفتح الأفق واسعاً لأطروحة المستشرق البريطاني/ الأميركي برنارد لويس التي طرحها في بداية الثمانينات بشأن الشرق الأوسط، مقسماً إياه إلى فسيفساء إثنية ودينية سُنية وشيعية وكردية وأمازيغية تجعل من وجود إسرائيل أمراً طبيعياً في المنطقة بعد تفتت الدول القومية وتحولها إلى مذهبيات، بما يمكّن إسرائيل من قيادة المنطقة. ذلك الطرح الذي ابتذله التداول طوال العقود الثلاثة الماضية كان يرتطم بتماسك المجتمعات العربية، سواء بفعل القبضة الديكتاتورية، كما في الحالة السورية، أو بفعل نموذج الدولة الأمة، كما في الحالة المصرية، إلا أن مشروع التقسيم أصبح ممكناً الآن بفعل قابلية البيئة السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية العربية لذلك، وخصوصاً في ظل هذا الانكشاف التاريخي الذي تعرضت له المجتمعات العربية بعد ثورات الربيع العربي بفعل فشل النخب السياسية في تأطير التعددية السياسية والدينية في تلك الدول بعد سقوط الديكتاتوريات، كما يحدث في مصر، أو استخدام تلك الديكتاتوريات ملف الانقسام الديني والمذهبي كورقة أخيرة في مواجهة الثورات، كما يحدث في سورية. أما الملاحظة الأخيرة، فهي وجود صراع سياسي ومعرفي مكتوم ما بين أميركا وإخوان مصر الذين تبنوا لزمن طويل فكرة الصدام مع الغرب كجزء أصيل في خطابهم السياسي والحضاري، إلا أن وصولهم إلى السلطة أجَّل هذا الصدام. فالإخوان المحكومون بغريزة البقاء يدركون وفقاً لأدبياتهم أنهم مازالوا في مرحلة «الاستضعاف» على المستوى الدولي على رغم بلوغهم مرحلة «التمكن» داخلياً، ولذلك فهم يحاولون تذويب التناقضات الأساسية بينهم وبين أميركا بالتماهي مع رغباتها في الملفين الفلسطيني والسوري انتظاراً للحظة المناسبة لإدراك مرحلة التمكن من دون الدخول في صدام مباشر مع الولاياتالمتحدة، كما فعلوا من قبل مع النظام الديكتاتوري في مصر، إلا أنهم هنا يراهنون على وصول المشروع السياسي والحضاري الغربي إلى مرحلة الانهيار التي تمكنهم من ذلك، متجاهلين أن هذا الانهيار إذا حدث يجب أن يلازمه صعود لنموذجهم السياسي والحضاري، وهو صعود ستعرقله بكل تأكيد ممارساتهم في الداخل التي أدت إلى تراجع مشروعهم وتآكل شرعيته لدى الجماهير، وهو ما يعني في النهاية أن أخونة الحال القومية في ظل هذا السياق ستؤول إلى حلول الإسلاميين محل القوميين بالكم لا بالكيف، بفعل الواقع السياسي والاجتماعي العربي المأزوم في مرحلة ما بعد الثورات، وبفعل تحللهم كذلك من موقف العداء الصريح للغرب الذي تبناه القوميون لعقود عدة. * كاتب مصري