لا تختلف منطقة "الحارة البرانية"، شكلاً ومضموناً، عن كثير من أحياء طرابلس، كبرى مدن شمالي لبنان، فجميعها مناطق، تنطق جدرانها ب"البؤس والحرمان". لكن ما يزيد معاناة تلك المنطقة حقاً، أنها لا تعاني البؤس والحرمان فقط، لكنها تحولت أيضاً إلى مأوى للخارجين عن القانون، الذين يتوارون وسط منازلها والتي من بينها مبانً أثرية تعود إلى العصرين المملوكي والعثماني. في ساعات الصباح، أصوات عديدة تخترق سكون تلك المنطقة، باعة هنا ينادون على سلعهم، وامرأة هناك تحذر أولادها من الابتعاد، ورجل ينهر طفلاً تشاجر مع ولده، وشبان عاطلون عن العمل يجلسون عند إحدى الزوايا يشربون القهوة ويدخّنون النرجيلة. تسمع منهم بعض الكلمات خلال مرورك من جانبهم: "لا تصورنا"، "ما بدنا نحكي أوضاعنا"، "وين الدولة؟"، "ما بيزورونا إلا وقت الانتخابات". ومنذ العام 2008، تحولت هذه الحارة بشوارعها المختلطة مذهبياً، إلى مركز لتجمع المسلحين الخارجين عن سلطة القانون، وشهدت مواجهات مسلحة وأزمات مع الدولة اللبنانية، التي تجد صعوبة في الدخول بشكل مباشر إلى تلك المناطق، نظراً لضيق شوارعها وكثافة القاطنين فيها. وشكلت "الحارة البرانية"، على مر العقود خزاناً للفقراء، ومأوى للمتمردين على الدولة في مراحل زمنية متعددة، احتضنتهم بشوارعها الضيقة ومنازلها المهترئة. ومع مطلع شهر يونيو/حزيران الجاري عادت "الحارة البرانية" لتتصدر المشهد، بعد مواجهات مسلحة بين عناصر من الجيش اللبناني ومسلحين، اعترضوا على محاولة الجيش الدخول إلى بعض الأحياء فيها ومصادرة أسلحة، خلال مهمته تطبيق الهدنة بين منطقتي "التبانة"، و"جبل محسن". وبحسب مصادر أمنية، فإن "هذه الحارة تضم مقاتلين من ولاءات سياسية متعددة، ومن بينهم مطلوبين بمذكرات توقيف قضائية، وتضم أشخاصاً مطلوبين للعدالة بتهم مختلفة". "الحارة البرانية"، التي تضم منازل من الحقبتين المملوكية والعثمانية، تقع في الجهة الشرقية من مدينة طرابلس القديمة على شاطئ نهر "أبو علي"، ويحدها من الشمال مناطق فقيرة وهي: (سوق القمح ، طلعة العمري، باب التبانة)، ومن الجنوب "السويقة". قصة الحرمان في "الحارة البرانية"، ليست وليدة اليوم، فهي إرث لتاريخ طويل امتد على مر العقود بأوجه مختلفة، منه ما هو طبيعي ومنه ما هو سياسي، وفي كلا الحالتين روايات عن معاناة هذه المنطقة، التي تشهد عليها جدرانها ومنازلها وكل معلم فيها. ورغم مرور السنوات، لا تزال تلك الحارة حتى يومنا هذا على حالها، تشكو الفقر وتعاني الحرمان والإهمال، ويدفع أبناؤها من حياتهم وأرزاقهم فاتورة الصراعات السياسية القائمة. "لا أحد يسأل عنا وإذا أردت أن تأتي إلى الحارة البرانية، الكل يقول لك أنت تبحث عن أكثر المناطق التي تكون فيها معالم الحرمان ظاهرة"، هذا ما يقوله أبو محمد (50 عاماً) أحد سكان المنطقة. تشبيه أبو محمد يبدو قريبا للواقع، فالمشهد العام للحارة من الخارج، كفيل بتكوين أول انطباع عنها، واجهات منازل بعضها مدمرة وبعضها الآخر متشقق، أسقف محال معظمها من "التنك"، منازل متلاصقة ومتشابهة لا يميزها عن بعضها إلا صور النواب والشخصيات السياسية المعلقة عليها. الدخول إلى الحارة، يمر عبر عدة طرق، تضطر خلالها للصعود على أدراج، لا تزال إلى يومنا هذا الوسيلة الوحيدة للسكان، بسبب استحالة فتح طريق لها، نظراً لضيق المساحات داخل الأحياء التي تنتشر فيها المحال الصغيرة والبسطات المعدة لبيع المواد الغذائية والخضار واللحوم والدجاج.