بعد اجتماع المصارحة الذي عقده الرئيس الاميركي باراك اوباما مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، تأكد المراقبون من أن آخر محاولة ديبلوماسية فشلت في إيجاد حل سياسي للأزمة السورية. وهذا معناه، في نظر الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، التمديد المتواصل لحرب يصعب التنبؤ بنهايتها. وفي بلفاست، كرر هولاند انتقاده لموقف بوتين المعارض تسليح «الجيش السوري الحر»، في حين تستمر بلاده في تسليم نظام بشار الأسد آخر أنواع الأسلحة الفتاكة. ولوحظ خلال اللقاءات أن الرئيس الروسي كان يستخدم منطق بشار الأسد في الدفاع عن انحيازه، محذراً الاوروبيين من عواقب الفوضى في سورية، ومن عودة الإرهابيين من الشيشان وباكستان وكوسوفو ودول الخليج. وكان الأسد قد تحدث الى صحيفة ألمانية معلناً اعتراضه على التقرير الطبي الذي أصدرته فرنسا حول الأدلة الثبوتية بأن قواته استخدمت السلاح الكيماوي في دمشق وحلب. وقال في تفسير ذلك ان الاتهامات مجرد أكاذيب تُطلَق من أجل تبرير تدخل عسكري واسع. على هامش قمة مجموعة الثماني، عاتب بوتين نظيره اوباما، لأنه تراجع عن تعهده بإنهاء الحروب التي افتعلها الحزب الجمهوري في أفغانستان والعراق. وتوقع له الرئيس الروسي الفشل الذريع إذا أرسل قواته الى سورية أو الى جارتها الأردن. الرئيس الاميركي دافع عن موقفه الجديد بالقول إنه كان مجرد رد فعل على خرق الأسد كل الخطوط الحمر، بدءاً باستخدام الأسلحة الكيماوية... وانتهاء باستعمال أسلحة الدولة لقتل المعارضين من أبناء وطنه بأعداد ضخمة تجاوزت المئة ألف ضحية. وأعرب اوباما عن اقتناعه بأن السلاح الذي سيورد الى «الجيش السوري الحر» سيسهل انتقال الفريقين الى جنيف-2 الشهر المقبل. والسبب أنه سيؤمّن التوازن بين القوات النظامية المعتمدة على دعم روسيا وإيران و «حزب الله»... وبين قوات مفككة تستجدي المساعدات العسكرية والمنح الإنسانية لإيواء ثلاثة ملايين مهجر. وفي نهاية الاجتماعات، تبيَّن أن بوتين وافق على مساندة كل عمل إنساني يؤدي الى رفع المعاناة عن النازحين، ولكنه رفض أي مسعى آخر يتعلق بتغيير موقف بشار الأسد من الأزمة القائمة. في ضوء هذه الإخفاقات الدولية، عاد الحديث عن أهمية استرداد المناطق الشمالية والجنوبية من مدينة حلب، الأمر الذي يحول دون تمرير الأسلحة المطلوبة للمعارضة عبر تركيا والأردن. خصوصاً بعدما خضع الشاطئ لمراقبة مشددة من جانب حرس الشواطئ عقب سيطرة «حزب الله» على مدينة القصير. وقد برَّر السيد حسن نصرالله المشاركة في تلك المعركة الاستراتيجية بأنها، في نظره، تمثل جزءاً من مقاومة القوات الأجنبية التي تحاول السيطرة على لبنان. لذلك تكثر في هذه الأيام الإشاعات التي تتحدث عن وجود قوات تابعة ل «حزب الله» حول حلب، إضافة الى أربعة آلاف مقاتل من الحرس الثوري الايراني يشتركون في محاصرة حلب أيضاً. وقد سمح لهم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي بالتسلل للمساهمة في الدفاع عن نظام بشار الأسد. ويدّعي المالكي أن إحساسه بضرورة هذه المساهمة قد تعاظم بعدما أعلن الرئيس المصري محمد مرسي قطع العلاقات الديبلوماسية مع دمشق وإغلاق السفارة السورية في القاهرة. وكان مرسي قد أعلن أمام مؤتمر نظمته «الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح»، التي تضم ممثلين عن «الأخوان المسلمين»، قطع العلاقات مع النظام السوري. وبرَّر قراره باعتبارات مختلفة أبرزها «التدخل الواسع والمُعلَن ل «حزب الله» في الأزمة السورية. ودعا الى قمة عاجلة تضم دولاً عربية وإسلامية للبحث في مستقبل سورية، كونها مهددة بحملة إبادة وتطهير عرقي غذّته قوى إقليمية ودولية. وكان مرسي قد طرح في مكة المكرمة خلال شهر آب (اغسطس) الماضي مبادرة لحل الأزمة السورية. كذلك أعاد طرحها في اجتماع طهران، مهاجماً النظام البعثي وداعياً الى إسقاطه. الحكومة السورية هاجمت محمد مرسي، واتهمته بالانضمام الى جوقة التحريض والتآمر التي تقودها ضدها الولاياتالمتحدة وإسرائيل. واعتبرت «ان موقفه غير المسؤول يعكس محاولته تنفيذ أجندة الأخوان المسلمين، هرباً من الاستحقاقات الداخلية المقبلة». في مواجهة هذه العاصفة الديبلوماسية، تسابقت أحزاب مصرية عدة على انتقاد الخطوة التي أقدم عليها الرئيس مرسي. ووصف حمدين صباحي، المنافس السابق على منصب الرئاسة وزعيم ما يُعرف بالتيار الشعبي، هذا الإجراء بأنه «محاولة استرضاء للولايات المتحدة، ظناً منه أن واشنطن يمكن أن تحميه من الغضب الشعبي الذي ينتظره يوم 30 حزيران (يونيو) الجاري». وكانت تلك الإشارة بمثابة تذكير بموعد التظاهرة المقررة للمطالبة برحيل الرئيس مرسي. الانتصار الذي حققه «حزب الله» في بلدة القصير السورية شجع عدداً من الطلاب الشيعة على الالتحاق بمعسكرات في الجنوب وبعلبك، حيث يخضعون لدورة تدريب كاملة تحت إشراف مدربين من الحرس الثوري الايراني. وترى جماعة 14 آذار أن وقوف «حزب الله» الى جانب النظام السوري قد يعرِّض البلاد الى مخاطر حرب أهلية ثانية، ويشجع الانقسام المذهبي بين السنّة والشيعة. وحول هذا الاتهام بالذات، دافع السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير عن موقفه بالقول: إننا آخر المتدخلين في سورية، وسبقنا تيار المستقبل وتيارات وتنظيمات لبنانية أخرى لا أريد أن أسمّيها. ثم تساءل: لو تدخلنا في سورية مع المعارضة، هل كان تدخلنا مباركاً وذكياً وكريماً ولأصبحنا «حزب الله» الحقيقي؟ وكان من الطبيعي أن يثير هذا الجدل المعلن الخلفية التاريخية لمراحل النزاع الطائفي في لبنان. ففي الماضي البعيد عانى المواطنون من المجازر المتواصلة ما بين عامي 1840 و 1860. ولولا تدخل الأمير عبدالقادر الجزائري لحماية المسيحيين في دمشق، خلال شهر تموز (يوليو) 1860، لكانت الفتنة الطائفية قضَت على الألوف منهم. وكان ذلك امتداداً لمجازر جبل لبنان. بالمقارنة مع تلك الوقائع المظلمة، ظهرت حادثة مقتل 14 مواطناً سنّياً بنار قوات النظام السوري قرب عرسال كشرارة فتنة نائمة أيقظتها حدة التوتر بين الفريقين. وقد امتدت أعراض ذلك التوتر الى مدينة طرابلس حيث جرت صدامات دامية بين علويي جبل محسن (35 ألف نسمة) المؤيدين للأسد والأكثرية السنّية المعارِضة. ولم تكن المخاوف التي عبَّر عنها الرئيس ميشال سليمان أكثر من تحذير مسبق لتفادي فتنة مذهبية قد يتعرض لها لبنان على أيدي المهددين بالانتقام مثل جماعة «القاعدة» و «جبهة النصرة». يقول المحللون إن الحرب الأهلية السورية ولدت من تظاهرات «الربيع العربي» التي طالبت بالديموقراطية مثلما حدث في تونس ومصر وليبيا. ولكنها لم تلبث أن تحولت الى نزاع سياسي على الحكم بين العلويين وخصومهم السنّة. وهي تشبه في بعض مراحلها، الحرب الأهلية الاسبانية (1936-1939). فقد بدأت كصراع بين الملكيين والجمهوريين على شرعية الحكم المركزي. وانتصر للطرف الملكي الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي دحر الشيوعيين وحلفاءهم من المنظمات الراديكالية التي استقطبت آلاف المتطوعين من اليسار الاوروبي. وكما حدث في اسبانيا، أصبحت الحرب الأهلية السورية محور جذب واستقطاب لمئات الشبان الذين تطوعوا للقتال مع النظام... ومع خصومه. واللافت في هذا الموضوع أن المتطوعين المسلمين لم يجيئوا من الشرق الأوسط فقط، بل أتوا من دول إسلامية بعيدة كالشيشان وباكستان وأفغانستان. أو حتى من دول مسيحية قريبة كفرنسا وبريطانيا. مع انتهاء قمة الدول الصناعية الثماني في ارلندا الشمالية، يتساءل الاعلاميون عن الجهة الرابحة من هذا المؤتمر، وما إذا كان ديفيد كامرون قد نجح في تغيير موقف بوتين من الحرب الأهلية في سورية؟! لاحظ المشاهدون عبر شاشات التلفزة أن الرئيس بوتين كان دائم الالتصاق بالمستشارة الالمانية انغيلا مركل. والسبب أنه يتكلم الالمانية بطلاقة منذ تعيينه مديراً لفرع الاستخبارات السوفياتية (ك.ج.ب) في برلين الشرقية. وقد استغل هذه الخلفية السياسية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية ليقيم أفضل العلاقات مع حكومة ألمانيا الموحدة. كاتب سيرة حياة بوتين يذكر الدور الريادي الذي قامت به المانيا الشرقية أثناء تنظيم جهاز الاستخبارات السورية في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد. وكان من الطبيعي أن تقود تلك العلاقة الوثيقة بين موسكوودمشق الى إرسال مدربين ومراقبين الى سورية. ويعترف أنصار عبدالله اوجلان (الحزب الشيوعي الكردي) بأن المراقبين السوفيات كانوا يزورون مخيم التدريب في البقاع حيث أقامت رئيسة الجيش الأحمر الياباني، الطبيبة فوساكو، مخيمها أيضاً. وفي مرحلة أخرى، أثناء اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، تولت عمليات التدريب جهات فلسطينية يسارية. عندما زار سيرغي لافروف، وزير خارجية روسيا، دمشق في شباط (فبراير) الماضي، اصطحب معه ميخائيل فرادكوف، رئيس الاستخبارات الخارجية. وكانت الغاية من تلك الزيارة إقناع الرئيس بشار الأسد بضرورة إجراء إصلاحات دستورية سريعة تقنع المعارضة بصدقية دعوته للتغيير. وظهرت تلك الزيارة كإثبات على عمق التعاون بين البلدين، وكشهادة على تدخل موسكو لمصلحة النظام الذي سلّحته منذ أربعين سنة. الجواب عن السؤال المتعلق بنجومية الرئيس بوتين في قمة الدول الصناعية الثماني الكبرى اختصره الرئيس الروسي ببيان مقتضب تلاه على الحضور خلال ثلاث دقائق فقط. قال إنه يؤيد عقد مؤتمر جنيف للسلام في سورية، داعياً الى الاتفاق بشأن حكومة انتقالية يتم تشكيلها بالمشاركة. كذلك طالب بالسماح بدخول فريق تحقيق من الأممالمتحدة للتأكد مما إذا كان النظام السوري استخدم أسلحة كيماوية ضد خصومه في دمشق وحلب. واللافت أن بوتين رفض القبول بأي إشارة الى مصير الأسد في البيان الختامي. ويُستدَل من طرح فكرة اختيار الأممالمتحدة لمراجعة موضوع استخدام السلاح الكيماوي من جانب النظام السوري، أن روسيا مصرّة على نقض هذه الحجة التي استند اليها الرئيس الاميركي اوباما من أجل تسليح المعارضة. والثابت أن التقارير التي صدرت عن فرنسا وتركيا وبريطانيا وإسرائيل لم تُشِر الى الجهة المسؤولة، وإنما تحدثت عن استخدام السلاح الكيماوي في منطقة خان العسل في حلب، ومناطق أخرى مثل دمشق وحمص. وذكرت الحكومة السورية أن قوات المعارضة هي التي تستخدم الأسلحة الكيماوية، ثم تلصق التهمة بالنظام من أجل تغيير موقف الادارة الاميركية. كذلك رفض الرئيس بوتين البحث في إقامة منطقة حظر طيران في سورية، لأن هذا القرار يحتاج الى ترخيص من مجلس الأمن الدولي. أما بالنسبة الى مؤتمر جنيف للسلام، فقد استعجل بوتين موعد عقده، علماً أنه تم تأجيله مرتين منذ لقاء الوزيرين جون كيري وسيرغي لافروف. وتعترف قيادة القوات السورية المعارضة أن القوات النظامية شنّت هجوماً واسعاً بالدبابات في حلب، بهدف استرداد المدينة قبل عقد المؤتمر في جنيف. وربما استخدم الرئيس الروسي ذلك الهجوم المفاجئ لتخويف قمة الثماني، وإرغام المشاركين على القبول بشروطه. تقول الصحف البريطانية إن فلاديمير بوتين كان يتصرف في المؤتمر بثقة مفرطة كأنه أحد القياصرة. والدليل أنه اقترح إرسال 400 من جنوده ليحلّوا مكان القوة النمسوية التي انسحبت من الجولان. ولما قيل له إن اقتراحه يتناقض مع المعاهدة الدولية التي أبرمها هنري كيسنجر عام 1974، أجاب بأن تلك المعاهدة وُضِعَت أثناء الحرب الباردة. وبما أن هذه الحرب قد انتهت، فإن من المفيد تعديل نصوصها. والدليل أنه في هذا الشهر (حزيران) ستُجرى مناورة في البحر الأبيض المتوسط تشترك فيها عشرون سفينة حربية روسية. ومثل هذا الأمر كان محظوراً، لولا الموافقة التي قدمتها سورية! * كاتب وصحافي لبناني