أرجع المفكر السعودي ابراهيم البليهي سبب التخلف الذي تعيشه الأمة العربية إلى الانغلاق الثقافي، «إذ يصبح الناس متماثلين ولا يتغير المجتمع»، لافتاً إلى أن فرنسيس بيكون وديكارت لم يقدما علماً بقدر ما طالبا بتحرير الأوهام، «ديكارت أخلى ذهنه ليتحقق مما فيه، إذ لابد من إفراغ الذهن فالعقل يحتله الأسبق إليه». وقال: «لو مسحت اسم مؤلف لما علمت هل أُلف قبل 400 عام أم أن المؤلف جديد، وإنما تعرف أنه معاصر إذا سبّ أحد أميركا»، مشيراً إلى أن نهضة الفكر شرط لنهضة المجتمع، وأن الحضارة الإسلامية حضارة دينية وليست دنيوية، وأن علماء المسلمين (ابن رشد، الفارابي، ابن سينا) تعلموا من الثقافة اليونانية ولم يكن لهم أتباع، مبدياً أسفه من عدم الترحيب بما قدموا، «من رد عليهم هم الذين بقيت أطروحاتهم... وبسببهم كرهنا العقل»، مفيداً أن العقلانيين الذين عاشوا في العالم الإسلامي كانوا خارج نسق الثقافة. ولفت، إلى أن التقدم والتخلف أمران حديثان، أما في السابق فالكل متخلف، إذ كانت الحياة عبارة عن مسيطر ومسيطر عليه، وأبدى إعجابه بأوروبا التي كانت تتقاتل والآن تتحد، إذ يوجد لديها قابلية للتغير. وقال في المحاضرة التي قدمها في ندوة الأمير تركي بن طلال بن عبد العزيز مساء الأحد الماضي، بعنوان: «أسباب التقدم والتخلف الحضاري»: «إن الثابت لا يتحرك إلا من الداخل بوسائل من خارجه، ولا يتقدم أي مجتمع إلا إذا استجاب لمفكريه»، وأفاد أن التخلف هو الأصل إذ يعد بنية متماسكة لا تتحرك إلا بتغير قوي، وشدد على ضرورة إدخال الفكر الفلسفي لدى الدارسين وإلا لن يصل العلم إليهم، وأرجع فشل التعليم العربي إلى عدم وجود نهضة فكرية، خصوصاً إذا كان التلقين هو السائد. وأوضح أن الدين الإسلامي هو الحق المطلق لأن صيغته نهائية، وأن الخلل فينا نحن وليس في ديننا، وأشار إلى أن الدول الإسلامية لم تستقل بذاتها وبما تنتج إلا ماليزيا وتركيا، لافتاً إلى أن أي مجتمع لا يعتمد على إنتاجه سيكون عرضة للإفلاس، «حين انخفض سعر البترول كادت أن تفلس الدول الخليجية، قبل 15 عام، وسيتكرر هذا الانخفاض». ونوه إلى أن المسلمين «أصبحوا عبئاً على أنفسهم وعلى العالم من حولنا». لافتاً إلى أن «الحروب تجمع الأعداء، والفلسطينيون لم يجتمعوا، وعندما نختلف نعدّ أن الآخر ليس من حقه أن يختلف، ونفسقه ونبدعه ونكفره»، مبدياً تذمره من الواقع الحالي «كنا نواجه الفكر بفكر أما الآن، فنحن نواجه الفكر بالسلاح، وهذا تراجع كبير، كما أننا نزداد انغلاقاً وبعداً عن بعضنا في الوقت الذي يشهد العالم انفتاحاً وتسامحاً مع الآخرين». وذكر أن المسلمين يجرون العالم إلى الخلف، «إذ أننا لسنا قادرين أن نتفاهم مع أنفسنا ولا مع الأمم الأخرى»، واستشهد بالقرصنة الموجودة في الصومال، مشيراً إلى أن أميركا حينما احتلت اليابان «لم يتقاتل اليابانيون فيما بينهم وإنما قاوموا الجنون الوحشي، بينما نحن نتبادل التخوين والتكفير، كما هو حاصل في العراق وفلسطين». وأوضح أن الإنسان «كائن تلقائي، وكونه كذلك فهو لا يولد بعقل ناجز، وإنما بقابليات، فلو كان عربياً وعاش في اليابان فسيتأثر بالثقافة هناك، ولن يؤثر فيه انتماؤه العرقي». وأبدى البليهي استياءه من واقع التعليم المليء بالتلقين، إذ تكثر الجامعات ونزداد تخلفاً، مؤكداً أن ما كان نابعاً من الذات هو الذي يفيد أما ما يفرض فرضاً لا يكون من البنية الثقافية العلمية. وأشار إلى أن الطفل إذا عُزل عن الطفولة لا يكون إنساناً، لذا ما يتشربه في الطفولة هو الأهم، «ليس هناك فرق بين الأب العامي وابنه حامل الدكتوراه، لأن الثقافة هي ما تمتصه الذات قبل الدراسة، فما يتشربه الطفل تلقائياً هو ما ينتج أفكاره من عادات وقيم ونحوه وليس من الكتب، فالإنسان في السنة الثانية والثالثة من عمره يتشكل ذاتياً وعاطفياً وحضارياً»، معتبراً أن الحضارة هي منجزات هذه الثقافة. وأضاف: «نحن أخذنا المنجز كمواد وليس كأداة تفكير، وأخذنا العلم كمسائل وليس كطريقة تفكير»، وذكر أن الإنسان كونه كائن تلقائياً «فهو يتبرمج، وكل إنسان بإمكانه أن يعبئ ذاته، ممثلاً بلاعب الكرة الذي يعبئ ذاته بمهارات ومن ثم يبدع في تطبيقها». واستاء من الوثوقية الموجودة لدى المجتمع، «نحن دائماً متأكدين مما عندنا، بينما المتعلمين يقاربون ولا يتأكدون، إذ الوهم هو الأصل والحقيقة شيء استثنائي» وأفاد أن الغرب انتقل من الإخضاع إلى الإقناع ومن الإطلاق إلى الترجيح، إذ الحياة تقوم على الترجيح وليس الإطلاق «فالأمور بين ضرر أقل ومصلحة أكثر.. وهكذا»، مبيناً أن الكمال مثال بعيد يجب السعي إليه، وذكر أن سقراط حينما بدأ أقر بأنه جاهل، حتى يعترف المجتمع بجهله وأن ما تحمله رؤوسهم جهل كله، لافتاً إلى أن الخطأ هو الأصل بينما هو في الثقافات القديمة هو الاستثناء، لذا نحن نتوهم الكمال ونستنكر الخطأ ولا نعمل خوفاً من الخطأ. واعتبر البليهي أن كل شيء نتاجه من جنسه، «عندما نراجع حركات التنوير في العالم العربي نجد أننا ازددنا انغلاقاً، فأي محاولة للتنوير نواجهها بمزيد من القيود، وأي تقييد للعقل يصاب بالشلل، فالعقل لا يتحرك إلا إذا حُفز لأنه مقيد لا يتحرك»، ممثلاً على ذلك بكتاب لطه حسين كمحاولة للتنوير. وفي ختام المحاضرة، التي شهدت مداخلات ساخنة وتحولت إلى سجال وجدل حول التقدم والتخلف، ولم تخلو من اتهامات طاولت المحاضرة، علق أستاذ الفلسفة في طيبة الدكتور صابر طعيمة، أن البليهي مثالي النزعة وليس مادياً، لكنه طعيمة طرح سؤالاً مشككاً: هل تريد أن تقول لنا أن الإسلام وراء الجمود الثقافي؟ وغمزه بقوله: «كأني أرى كتاب «هذه هي الأغلال» لعبدالله القصيمي. فجاء رد البليهي: «أنا مسلم مثلكم وبحثي في الجامعة عن سيد قطب... لا تزايدون على الإسلام ولا يمكن أن ننسب هذا التقاتل إلى الإسلام».