نماء وطن ورفاهية مواطن    قصة نجاح مُلهمة    المملكة أصبحت محط أنظار العالم    نقطة تحول فارقة في التنمية الوطنية    نتائج مبشّرة ومعالم بارزة    وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تنظم ملتقى المسؤولية الاجتماعية    بلدية محافظة الشماسية تشارك في فعاليات "بيئتنا كنز"    الجبير يترأس وفد المملكة في مراسم تشييع بابا الفاتيكان    ترامب يحض على عبور "مجاني" للسفن الأميركية في قناتي باناما والسويس    النصر يعبر يوكوهاما والأهلي يضرب موعداً مع الهلال    برشلونة يكسب "كلاسيكو الأرض" ويتوج بكأس ملك إسبانيا    مدرب كاواساكي: قادرون على التأهل    إطلاق مبادرة "حماية ومعالجة الشواطئ" في جدة    اللواء عطية: المواطنة الواعية ركيزة الأمن الوطني    1500 متخصص من 30 دولة يبحثون تطورات طب طوارئ الأطفال    الأميرة عادلة بنت عبدالله: جائزة الشيخ محمد بن صالح بن سلطان عززت المنافسة بين المعاهد والبرامج    تدشين الحملة الوطنيه للمشي في محافظة محايل والمراكز التابعه    رئيس مركز الغايل المكلف يدشن "امش30"    101.5 مليار ريال حجم سوق التقنية    ضبط 19328 مخالفاً للإقامة والعمل    الحكومة اليمنية تحذر موظفي ميناء رأس عيسى من الانخراط في عمليات تفريغ وقود غير قانونية بضغط من الحوثيين    اكتشاف لأقدم نملة في التاريخ    101.5 مليار ريال حجم سوق التقنية    قدراتنا البشرية في رؤية 2030    المملكة في معرض أبوظبي الدولي للكتاب    تصاعد التوترات التجارية يهدد النمو والاستقرار المالي    الذهب ينخفض 2 % مع انحسار التوترات التجارية.. والأسهم تنتعش    800 إصابة بالحصبة بأمريكا    فواتير الدفع مضرة صحيا    الذكور الأكثر إقبالا على بالونة المعدة    انتهاء محادثات أمريكية إيرانية في عُمان وسط تفاؤل حذر    موعد مباراة الأهلي والهلال في نصف نهائي دوري أبطال آسيا    المملكة ترحب بالإجراءات الإصلاحية الجديدة للقيادة الفلسطينية    حين يعجز البصر ولا تعجز البصيرة!    القيادة تهنئ تنزانيا بذكرى يوم الاتحاد    السعودية تعزي إيران في ضحايا انفجار ميناء بمدينة بندر عباس    32 مليون مكالمة ل 911    قوانين الفيزياء حين تنطق بالحكمة    التحول الرقمي في القضاء السعودي عدالة تواكب المستقبل    مكافحة المخدرات معركة وطنية شاملة    الصبان رعى الختام .. اليرموك يخطف الأضواء والحريق والهلال في صدارة التايكوندو    جيسوس: الفوز بهدف فقط أفضل من خسارة كانسيلو    أمطار رعدية ورياح نشطة على عدة مناطق في المملكة    للمرة الثالثة على التوالي ..الخليج بطلاً لممتاز كبار اليد    نائب أمير تبوك: رؤية المملكة 2030 حققت قفزات نوعية وإنجازات    ثانوية الأمير عبدالمحسن تحصد جائزة حمدان بن راشد    أمير منطقة جازان يرفع التهنئة للقيادة بما حققته رؤية المملكة من منجزات في الأعوام التسعة الماضية    "عبيّة".. مركبة تحمل المجد والإسعاف في آنٍ واحد    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف يلتقي مديري عموم الفروع    في الدمام ( حرفتنا حياة ) ضمن مبادرات عام الحرف اليدوية 2025    إمام الحرم النبوي: حفظ الحقوق واجب شرعي والإفلاس الحقيقي هو التعدي على الخلق وظلمهم    إمام المسجد الحرام: الإيمان والعبادة أساسا عمارة الأرض والتقدم الحقيقي للأمم    الشيخ صلاح البدير يؤم المصلين في جامع السلطان محمد تكروفان الأعظم بالمالديف    محافظ صبيا يكرم رئيس مركز قوز الجعافرة بمناسبة انتهاء فترة عمله    رئيس نادي الثقافة والفنون بصبيا يكرّم رئيس بلدية المحافظة لتعاونه المثمر    محافظ صبيا يشيد بجهود رئيس مركز العالية ويكرمه بمناسبة انتهاء فترة عمله    10 شهداء حرقًا ووفاة 40 % من مرضى الكلى.. والأونروا تحذّر.. الاحتلال يتوسع في جرائم إبادة غزة بالنار والمرض والجوع    أكدا على أهمية العمل البرلماني المشترك .. رئيس «الشورى»ونائبه يبحثان تعزيز العلاقات مع قطر وألمانيا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أمجد ناصر باكياً على أطلال بيروت المفقودة
نشر في الحياة يوم 09 - 06 - 2013

كأن كتاب الشاعر أمجد ناصر «بيروت صغيرة بحجم اليد: يوميات من حصار عام 1982» (الأهلية للنشر والتوزيع، عمان 2013) الموزع في أقسام ثلاثة، هي «اليوميات» و«نصوص من الحصار» و«العودة إلى الفردوس المفقود»، مكرّس في توزيعه هذا للتدليل على مقولة الشاعر وردزورث الشهيرة بشقيها: الانفعال الخام والاستعادة الهادئة، فاليوميات التي تسجل حالة الحصار الإسرائيلي لبيروت ما بين حزيران (يونيو) وآب (أغسطس) 1982 والتي كان الشاعر يدونها في آخر النهار كلما أتيحت له الفرصة، هي يوميات انفعالية خام، ليس فيها من التهذيب والصقل والمراجعة إلا ما تسمح به حمم النار المنصبّة على المدينة طوال الوقت. وقد نشرها الشاعر اليوم على ما كانت عليه وقتها بلا تدخّل، أو كما يقول أمجد ناصر في تقديمه للكتاب: «الملاحظات، المراقبة، التدوينات التي لا تخلو من اضطراب هي قوام هذه اليوميات، وهي يوميات تتخذ شكل كتابة سريعة مقتضبة، وربما منفعلة ومستطردة، قائمة على الشخصي الذي ينظر إلى العام من زاوية مخاوفه وأشواقه» (ص17).
أما القسم الثاني من الكتاب، فيضم مجموعة صغيرة من النصوص الشعرية لأمجد ناصر نفسه، إلى جانب أخرى لمحمود درويش ومعين بسيسو وسعدي يوسف مما كتب أثناء فترة الحصار، وهو لذلك قريب من حالة «الانفعال» الشخصي، على رغم كونه بطبيعة الحال أكثر صقلاً وأقل مباشرة من اليوميات. إنما هو القسم الثالث، «العودة إلى الفردوس المفقود»، والذي كتبه ناصر عقب زيارته الأولى لبيروت بعد 14 عاماً من نجاته من الحصار وخروجه من بيروت. هذا القسم من الكتاب هو الذي يمثّل ما يعنيه وردزورث ب «الاستعادة في هدوء». وبرغم أن النصوص نثرية، إلا أن روح الشعر ولغته الكثيفة المتأملة تقطن بين سطورها.
الكتابة الانفعالية المباشرة، النابضة بالخوف من الموت، نجدها في مثل هذه اليومية: «رحت أركض على غير هدى. الطائرات فوقي تماماً في سماء عارية. صوتها يمزق الأحشاء. أشعر به في معدتي. روحي تصعد إلى حلقي...» (ص38). الكاتب الذي كان يعمل وقتها بالإذاعة الفلسطينية من بيروت، والذي كان عليه أن يكتب هكذا حين لا يكون مشغولاً بمحاولة البقاء على قيد الحياة وسط أهوال القصف، كان على دراية تامة بازدواجية الدور المحتوم عليه، وهو ما تعكسه الكتابة التي تزاوج بين الانفعال والتأمل العابر بقدر ما تسمح به اللحظة: «الوعي بدورنا لا يعني أن القلب لا يرتجف عندما تنقضّ الطائرات على رؤوسنا. الوعي لحظتَها يفقد وعيه وتشرئب الغريزة» (ص 40). على أن النثر الذي يقطر دما ويصمّ آذاننا بهدير الطائرات ورعود الانفجارات، لا يستنكف أن ينعطف بين الحين والآخر نحو غنائية رقيقة تُذكّر بأشياء الحياة الأليفة التي غيبتها الحرب: «شاهدت امرأة من نافذة مقابلة لبناية «الحمرا سنتر» تتزين أمام المرآة مواصِلةً التقاليد الأنثوية لزمن السلم» (ص 43).
والغريب أن أفكار الشاعر الشاب (27 عاماً حينها)، كانت تبدو متجانسة ومقولة «وردزورث» الشهيرة، فهو يتأسّى في إحدى اليوميات بأنه: «غير قادر على كتابة الشعر هذه الأيام (...) لا أعرف كيف، ولكني لا أستطيع كتابة الشعر. مقابل ذلك أكتب كثيرا للإذاعة (...) مقالات وخواطر تشبه الشعر ولكنها ليست شعراً. يبدو أنني وقعت ضحية تصوري للشعر (...)» (ص 52-53). والحقيقة أن تصوره للشعر صحيح تماماً: هو الكتابة غير المباشرة للواقع، إلا أنه كان وقتها منفعلاً حتى خوف الهلاك الشخصي بواقع الحصار والموت العشوائي. لم يكن ثمة سبيل «لاستعادة الانفعال في هدوء»، ولذلك لم يكن ثمة سبيل لكتابة الشعر.
وحين يحاول الشاعر الشاب المحاصَر أن يكتب الشعر على الرغم من «عدم قدرته» المعلنة، على نحو ما نرى -مثلاً– إذا ما انتقلنا إلى قسم النصوص من الكتاب، في قصيدة «جزائري من قلعة «أرنون»»، فإننا نفهم تماماً لماذا لم يكن يكتب الشعر وقتها: «أيها الجزائري القادم من القلعة/ يا عبد القادر/ لم تحطّم قلبك الطائرات/ ولم تنثن أمام جبل الفولاذ/ بسلاحك البسيط/ صرعت الكولونيل/ وعلى كتفك الهشة/ حملت محمداً الفلسطيني/ للدم لون واحد/ بين «وهران» و«الشقيف»/ وللغزاة كأس واحد/ كأس الهزيمة» (138-139). هذا شعر شبه مباشر، قريب جداً من اليوميات المباشرة التي يشير فيها الشاعر أيضاً لقصة المقاتل الجزائري. هو شعر «انفعالي» تسجيلي، شعر صادق صدق «الانفعال» وليس صدق «الاستعادة في هدوء». على أن ثمة تكاملاً عفوياً بين اليوميات والنصوص، فاليوميات كثيراً ما تتوغل في شعرية الرؤية وشعرية اللغة على الرغم من مباشرتها وتسجيليتها، على حين أن النصوص في إيجازها الشعري وتجردها من التفاصيل تكتسب من طريق غير مباشر معاني إضافية، أو تكتسي لحماً وعظماً وملابس من حيثيات اليوميات الماثلة في ذهن القارئ الفارغ لتوّه من مطالعتها قبل أن ينتقل إلى النصوص.
أما القسم الثالث من الكتاب، «العودة إلى الفردوس المفقود»، فهو عنوان تُقصد به المفارقة، فليس العثور على الفراديس المفقودة من شيم الخبرة البشرية، وليست عودة أمجد ناصر في 1996 إلى بيروت بعد 14 عاماً من الغياب، بالاستثناء من هذه القاعدة. والنص أول من يعترف بذلك: «المكان العربي لا يصمد على حال. إنه دائم التغير والانقلاب» (ص 170). وإذا كانت هذه المقولة تصدق على أي مدينة أو قرية عربية، فكيف ببيروت التي تركها في حال دمار شامل عقب غزو وحشي؟ على الرغم من أن هذا الجزء من الكتاب كله نصوص نثرية، إلا أنها تنضح بشعرية الروح واللغة، وهذا هو الموضع الوحيد من الكتاب الذي نرى فيه بحق معنى «استعادة الانفعال في هدوء»، الهدوء الذي استغرق أربعة عشر عاماً وصقلته المعارف وتجاريب الأيام، كما يسمّيها صلاح عبد الصبور.
لا يعود الشاعر إلى «الفردوس المفقود» إلا لينغمس في رثائه والبكاء على أطلاله، غير مفترق في هذا عن الشاعر العربي القديم، إذ يعاين آثار ديار الحبيب المندثرة في الصحراء: «ها أنني لا أفعل شيئاً سوى محاولة إحياء شبكة من الصور المندثرة. كأنني لم آت إلى بيروت إلا للتيقن مرة وإلى الأبد أنني عشت في هذه المدينة فعلاً، ولم يكن الأمر مجرد التباس (...)». الانفصام تام إذن بين واقع 1996 وبين ذكرى 1982 وما قبلها. بين أطلال اليوم وعمران الأمس، بكل المعاني المادية والمعنوية. ناهيك عن المعنى الإضافي المستتر، عن الفصام بين أطلال الواقع الأربعيني للشاعر في التسعينات وذكريات الشاب العشريني في الثمانينات.
يدمغ الأسى والحسرة والإحساس بالفقدان صفحات القسم الثالث من الكتاب، إلا أن الواعية الشعرية تناضل من أجل استطلاع بصيص من الأمل وسط الأطلال المحيطة. على أن الشاعر الباكي أمام أطلال فردوسه المفقود لم يعد له في الحقيقة كبير ثقة بالأمل الطالع من بين الشقوق والانكسارات: «الأمل يا لبروقه وهتافاته المضللة!» (ص218).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.