وجهان متناقضان لأربيل، عاصمة إقليم كردستان، يمثلان الشكل والهوية الجديدتين للمدينة، وحيث ترتفع بنايات الأسواق الكبيرة (المولات) بالإنارة الساطعة الملونة، والمرافق التجارية الحديثة، والزوار المجتهدين في تحقيق نمط مختلف من التسوق، بينما الأجزاء القديمة من المدينة لا تزال تفتش عن مخرج من تقاليد الاستهلاك الجديدة. قلعة أربيل التي يعود تاريخها إلى الألف الأول قبل الميلاد، كانت تمثل حصناً منيعاً في حروب الآشوريين، إذ يتيح موقعها المرتفع أن تكون قلعةً عسكرية تصد أي هجوم. وهي اليوم تقوم في مثل الدور أمام موجة التحديث العمراني، وجنوح السكان إلى النزعة الاستهلاكية. أول ما يمكن للزائر أن يلاحظه في السوق، العمال الذين يقومون بتغيير الأرضيات وواجهات المحال القديمة التي يتألف منها سوق القلعة. لكن ما يقومون به لن يغير شكل السوق، أو ملامحه التاريخية. فالواجهة الرئيسة للسوق ستكون على طراز البناء العباسي، بينما الطرق الفرعية لن تكون بعيدة عن أجواء الممرات الضيقة للأسواق القديمة في المنطقة. التجول في السوق يكشف مبررات الالتزام بحماية هويته القديمة، فكثير من المحلات تعرض بضائع سياحية، وهي تعبر عن أشكال الحياة الكردية في المنطقة. هيوا قادر، بائع وهو من صنّاع الدف الكردي الشهير، يجلس في محله بسوق القلعة، ويتوسط أعداداً كبيرة من الآلات الموسيقية، يقول إنه «من الصعب أن تندثر هذه المحلات، وعلى الأقل لن يتوقف صناع الدفوف الكردية عن عملهم». الدف الذي يشبه الغربال، له وجه واحد مغطّى بجلد حيواني رقيق، وفي إطاره الداخلي ثُبتت حلقات معدنية، وظيفتها إصدار الأصوات أثناء النقر على الجلد، وبينما يحتفل الكرد على سفوح الجبال مع فرق موسيقية لا تستغني عن مثل هذه الدفوف، فإنها العنصر الرئيس المستعمل في حلقات الصوفية في كردستان العراق. ومثل الدفوف، واهتمام رواد سوق القلعة بها، كان مام محمد (وتعني العم محمد) يصنع أمام المارة ناياً، بينما مجموعة من العرب الوافدين للسياحة، وعدد من سكان دول مجاورة يلتقطون له صوراً فوتوغرافية. يقول محمد (67 سنة)، إنه قلق على مستقبل الصناعات الحرفية: «لا أبيع ما يسد الحاجة. في الحقيقة ليس الربح هو الهدف من بيع هذه الآلة الموسيقية التي يعشقها الكرد في كردستان العراق وإيران وتركيا، أنا وغيري نقوم بهذا لأننا جزء من سوق القلعة، لا يمكن الانفصال عن تاريخه». يعتقد محمد أنه من غير الممكن بيع هذه الآلة في مكان آخر غير سوق القلعة. حين تدور في الخط المحيط للسوق، يعترضك مقهى الشعب، وهو محطة استراحة تشبه كثيراً مقهى الشابندر في شارع المتنبي، حيث صور بالأبيض والأسود لرموز المدينة وأهم أحداثها التاريخية. أما الحضور فهم سياح عرب وأجانب، ومثقفون وصحافيون. في أي وقت تدخل المقهى تجد هناك من يلتقط صوراً تذكارية مع صاحب المقهى، وعلى الدوام هناك من يؤرخ للمكان الذي غلفته البلدية بطابوق أصفر مرصوف في أقواس عباسية، كما هو الحال في واجهة سوق القلعة. وفي جوار المقهى، كان بائع آلة «البزخ» يحاول إقناع زواره بأنه لا يبيع سوى ما يصنعه الأتراك، وبينما يجيب عن الأسباب، كانت شابة تجلس في الظل، داخل المحل، وهي تحضن آلة «البزخ»، وتضرب على أوتارها مع معلم يحاول ضبط حركة أصابعها. من عمال البلدية الذين يغلفون السوق بواجهة جديدة، إلى محل صغير يجمع عشاق الموسيقى التركية، تبدو القلعة أهدأ، وهي مع حلول المساء تتحول إلى مدينة أشباح، لا أحد فيها سوى عمال النظافة. الصخب والحركة ينتقلان إلى مكان آخر، لكن بطريقة مختلفة، وبأشكال وأنماط متناقضة. في المولات كل شيء يبدو سريعاً ويحمل دفعات بصرية مكثفة، تعكس تحول المجتمع الكردي في الحواضر إلى النزعة الاستهلاكية. ما يمكن الزائر أن يراه في «المولات» يدفعه إلى السؤال أين سيمضي الكرد أوقاتهم في المدينة لو لم تكن هناك «مولات». في مجمع تجاري كبير وسط مدينة أربيل، وهو «فاميلي مول»، كان بعض الرسامين الشباب يعرضون لوحاتهم التشكيلية على زوار المجمع. بعضهم كان مهتماً وتوقف للتحدث عن الألوان والأفكار، لكن زوار المجمع كانوا يقفون في طوابير غير منظمة أمام موظفة العلاقات في شركة «سامسونغ» لمعرفة آخر منتجاتها للهاتف المحمول. في مكان آخر كان أيمن محمد (45 سنة)، يبذل جهداً في جمع الزوار حول مكتبه الذي يتوسط ممراً عريضاً في المجمع، لشرح كيفية الحصول على فيلا بالتقسيط المريح في وحدة سكانية سياحية في أربيل. الصخب على موظفة «سامسونغ»، والمعلن عن المساكن الجديدة في أربيل، ينتهيان في الطابق العلوي حيث العشرات يتناولون وجبات سريعة، بينما أبخرة «البرغر» و «البيتزا» و «الهوت دوغ» تتصاعد في المكان مع شبان يوصلون الطلبات إلى طاولات بعيدة. وحتى ساعة متقدمة ليلاً لم يتوقف هذا المطعم الكبير عن الحركة.