يقولون إن أعتى لاعبي كرة القدم يخرجون من رحم ممارسة اللعبة في الشوارع والحارات والأزقة بكرة جرى العرف الشعبي على تلقيبها ب «الشراب» لأنها مصنوعة من الإسفنج والخيوط المغلفة ب «شراب» (جورب) قديم. وجرى العرف أنه باكتشاف المواهب المدفونة في الأزقة المزنوقة وخروجها إلى نور الفرق الكروية يتحول أداؤها من العنف والخشونة والتعارك والتشاحن إلى الانصياع لقواعد اللعبة. لكن مباراة «سد النهضة» الجارية رحاها في مصر هذه الأيام بين فريقي «الأسد المرعب» وأهل المنطقة المنتمي إليها و «الوحوش المجروحة» ومناصريها ممن جاؤوا من المناطق المناهضة والمناوئة والرافضة لفريق «الأسد المرعب» نقلت قواعد لعب الشارع إلى الملعب الدولي لتبدو المباراة عجيب غريبة مريبة. فالفريق الأول المعروف بشدته وبأسه وعضلاته المفتولة وقدراته المكنونة على مدى سنوات طويلة ظل يلعب خلالها في الأزقة والحارات جاذباً ملايين المشجعين ممن انبهروا بأدائه العالي الذي رأوا فيه ما يؤهله لينافس ما عداه من فرق المحترفين المعترف بها صدم الجميع بأدائه المهلل ولعبه المتحلل في المباراة المعروفة حالياً ب «سد النهضة». وبدل أن يستنفر مواهب لاعبيه الكامنة ويشحذ قدرات مدربيه المشهود لها دولياً على مدى ما يزيد على ثمانية عقود ويحشد جماهيره الغفيرة ومعجبيه ومشجعيه ومحبيه ومناصريه من أجل اللعبة الحلوة، فوجئ الجميع بمستوى أداء اختلطت فيه قواعد كرة السلة بالكرة الطائرة برياضة الهوكي بالكرة «الشراب» التي وإن كانت مقبولة إبان لعب الهواة في الشارع فهي مستهجنة ومستغربة مع تحول «الهواة» إلى «محترفين». فخطة المواجهة في مباراة «سد النهضة» غير واضحة، ويشكك بعضهم في وجودها من الأصل، فتارة يؤكد أعضاء الفريق أن كل شيء مدروس ومعروف، وتارة يجزمون بأنهم على علم بلوجيستيات اللعبة، وأنهم على أهبة الاستعداد، وتارة أخرى يقسمون بأغلظ الأيمان أن السد ليس في حاجة إلى مباراة من الأصل لأنه سيحمل الخير لمصر، ورابعة يلوحون أن هناك من خطط اللعب ما هو سري ما يعني أن البوح بما في جعبتهم من شأنه أن يضر بالمباراة وبالدوري برمته. وإذا كانت خطط اللعب المعروفة لا تخرج عن إطار تكتيكي الدفاع والهجوم، فإن التكتيك المتبع من قبل «الأسد المرعب» الحاكم لا ينتمي إلى أي من التصنيفين، لكنه يقوم على حشد أنصار الفريق للتأييد والإشادة بغض النظر عن اللعبة، بل وتوجيه اتهامات الخيانة والوصم بالعمالة إلى كل من يشكك في قدراتهم على اللعب. فلا هو كشف خطة مواجهة بعدما رفض تلويحات الضربة العسكرية، ولا هو أفسح مجالاً للمفاوضات بعدما أكد أنه على علم بحكاية السد، واكتفى بتكتيك الثقة في «كلمة الرجالة» التي حصل عليها من أن السد خير ونهضة ورخاء. وبدل التجهيز لمباراة مواجهة مع الفريق المنافس، انقسم فريق المنتخب الوطني على نفسه، وقرر مواجهة بعضه بعضاً، ومن ثم تشكل فريق «الوحوش المجروحة» من بقايا المعارضة ورموز المقاومة وأفراد المقاطعة. ويبدو أن افتقاد التناغم وافتقار الحوار بين لاعبي الفريق أديا إلى تشكيل لا يقل غرابة عن نظيره «الأسد المرعب». فبين لاعب يرفض المواجهة حتى لا يعطي «الأسد المرعب» شرعية يراها مفتقدة، وآخر يتأرجح بين النزول إلى أرض الملعب أو الاكتفاء بالجلوس في صفوف المشجعين، وثالث يعلن أن اللعبة الحلوة هي الفيصل ومن ثم سيتوجه إلى الملعب ثم يحدد موقفه، ورابع يمتطي حصان الأصالة فيؤكد أن الوقت ليس للتناحر ولكن للتكامل من أجل إكمال الدوري، وخامس يعلن ليلاً مشاركته ثم يصحو في الصباح ليعلن انسحابه. وانعكس هذا التشكيل المتشرذم المتبعثر على الشكل النهائي له، لا سيما أن لاعبيه يعتمدون على مرانهم الفردي في ظل غياب مدرب يجمع الصفوف ويوحد الجهود. وغرق الجميع في يم الاتهامات المتبادلة، فصرح لاعبو «الوحوش المجروحة» بأن «الأسد المرعب» أثبت أنه لا مرعب ولا من يحزنون وأن طاقاته في شؤون الري وخبراته في طاولة المفاوضات السياسية وقدراته في المناورات العسكرية لا تتعدى الكلمات الخاوية، بعدما تأكد شح الخبرة ووفرة السذاجة وشيوع التخبط. أما «الأسد المرعب» فلم يتخل عن خيلائه أو يتنازل عن كبريائه، وبدل عرض العضلات المعلوماتية والخبرات اللوجيستية في سبل مواجهة «سد النهضة»، اكتفى بادعاء هالة من السرية مصحوبة بتصريحات تتسم بالهلامية مع ادعاء الأهمية والتلويح بالقدرة التاريخية على الحشد والتجييش رغم عدم مناسبتها للظرف الآني. وبين هذا وذاك تتقافز اتهامات قلة الخبرة وانعدام الحيطة والرد عليها باتهامات قلة الأدب وانعدام الوطنية، وتلويح من هنا بأن المباراة النهائية تستدعي توحيد الصفوف وتجييش الجهود ونسيان الصراعات، وتلميح من هناك بأننا لسنا من فَرَّق أبناء الفريق الواحد وشرذم لاعبي المنتخب الوطني. وبالطبع لا تخلو الأجواء من فتوى شرعية هنا بالضرب بيد من حديد على كل من يرفض نزول أرض الملعب سواء كان إسلامياً أو ليبرالياً، وتخمة فضائية يجول فيها الخبراء والمحللون على عشرات القنوات لتحليل المباراة تارة في ضوء قواعد اللعبة المتعارف عليها بين المحترفين، وتارة أخرى بناء على ما جرى العرف عليه في أصول لعب «الكرة الشراب» في الحارات، لكن تظل المباراة الأصلية مسكوتاً عنها مأسوفاً عليها.