ارتفعت درجة الحرارة، وتأججت نسبة الرطوبة، واحتقنت أعصاب الكبار، وانفلتت أحاسيس الصغار، وبدأ عقرب الثواني في الدق بعنف على الأبواب. إنه الموسم الأكثر إثارة للأعصاب والأعلى استهلاكاً للكهرباء والأكثر تجرعاً لمشتقات الكافيين والتهاماً لكل ما غلا ثمنه وتوافر في البراد، أو بالأحرى ما كان متوافراً. هلّ حزيران (يونيو) بحرارته الخانقة المعتادة وأجوائه المرتبطة منذ فجر التعليم باليوم الذي يكرم فيه المرء أو يهان؛ إنه يوم الامتحان. لكن امتحانات هذا العام ليست كغيرها. فهي لم تعد موجات جنون موقت يصاب بها الطلاب، وتكرار هستيري لعبارات «قم ذاكر» و«قابلني لو فلحت» و»يا إبني أكيد هتسقط» و«ارحم نفسك من قلة المذاكرة» و«ستبكي على الوقت المهدر في يوم لا يجدي فيه الندم» والتي يرددها ملايين الآباء والأمهات دون وعي، ولا قلب الليل نهاراً بغرض السهر للمذاكرة والنوم صباحاً. فقد تغيرت المعطيات. أنهمك الآباء والأمهات في المشهد السياسي الملبس، والوضع الاقتصادي المحتبس فخارت قواهم ووقفت حائلاً دون المساهمة في عملية الهدم النفسي المصاحبة لتجهيز الأبناء والبنات نفسياً لخوض معترك الامتحانات. وتأثر معترك الامتحانات نفسه بالأجواء العامة في البلاد بعضه تأثر نفسي، والبعض الآخر مادي. فهواية النوم نهاراً والمذاكرة ليلاً باتت عصية على التنفيذ، فنور الصباح نهاراً لا يقبله نور الكهرباء ليلاً بعد ما أصبح انقطاع التيار السمة الوطنية على مستوى الدولة، اللهم إلا استثناءات لمن أصروا على الإبقاء على المذاكرة الليلية رغم أنف انقطاع التيار. بل أنهم رأوا في إصرارهم هذا نوعاً من أنواع المقاومة السياسية والحماسة الثورية. فظهرت طاولات بلاستيكية ومقاعد منزلية أسفل أعمدة الإنارة الشارعية التي سها المسؤولون عن قطع التيار عنها، وجلس قادة الغد ومستقبل مصر يذاكرون دروسهم في مشاهد أقرب ما تكون إلى الدراما السينمائية. فريق آخر قرر أن يقوم بدور همزة الوصل بين ميوله السياسية ومعاناته الكهربائية وضروراته التعليمية، فقرر المشاركة في أي تظاهرات مزمعة عند قصر «الاتحادية» المدعو إليها تحت شعار «يالا نذاكر عند الاتحادية». حتى أولئك الطلاب الذين يحظون ببعض ساعات نهارية لم تنقطع عنها الكهرباء، باتوا يجدون أنفسهم في مواجهات سخيفة مع الأهل، ليس بسبب المطالبة المستمرة بالمذاكرة، ولكن بفعل المطالبة المستمرة بعدم تشغيل مكيف الهواء، والتعامل برفق مع المروحة الكهربائية تحسباً لفاتورة كهرباء تهدد بإصابة دخل الأسرة في مقتل. وساوس الأهل القهرية التي انصهرت فيها السياسة والكهرباء والاقتصاد وأحوال البلاد قدمت طوق النجاة للبنات والأولاد الذين يعانون طيلة سنوات الدراسة من نصائح الأهل غير الممنهجة بالمذاكرة ليلاً نهاراً وتأكيداتهم غير المبررة بأن أولادهم فاشلون دراسياً بكل تأكيد أو أنهم سيحرزون درجات متدنية وسيتحول الذكور للعمل ك «صبي ميكانيكي» والإناث ليتبوأن منصب «عاملة منزل» دون ريب! وربما بقيت مساحة ضيقة لدى الأهل خصصوها للقلق تجاه الأبناء في موسم الامتحانات، ولكنه موجهة هذا العام لعنصري السلامة والأمن. ولحسن الحظ أن المسؤولين هذا العام وجهوا جل تصريحاتهم وغاية اهتماماتهم لهذين العنصرين تحديداً مع التأكيد بين الحين والآخر أن «الغش خط أحمر»، وإن كان واقع الحال في مصر بعد الثورة جعل من الخطوط الحمر كغيرها، تخترق وتنتهك دون عوائق تذكر! عشرات التصريحات والتأكيدات يطلقها المسؤولون حول إجراءات التأمين، وضلوع الطائرات في عمليات النقل، ولكنها بالطبع لنقل أوراق الامتحان، وليس الممتحنين الطلاب الذين يتوجهون إلى لجانهم هذا العام لا يحملون فقط قلق الامتحانات وتوترها، بل يصطحبون معهم أيضاً هواجس أمنية؛ فضبط طالب دبلوم فني وفي حوزته سلاح ناري في لجنة الامتحان في محافظة المنيا قبل أيام، ومقتل طالب على إثر طعنة تلقاها من زميله في داخل لجنة أداء امتحان الشهادة الإعدادية في الدقهلية وغيرها من الحوادث، تؤثر سلباً في الطلاب وذويهم. كل من يقطن المحروسة يعرف أن «مدام آمال» ستصطحب ابنتها إلى لجنة الامتحان وتنتظرها في الخارج تحسباً لأي أعمال غير محمودة العواقب، وأن «عم حسين» مضطر لعدم التوجه إلى عمله ليكون إلى جانب ابنه في هذه الأيام العصيبة تعليمياً وأمنياً، وأن هذه الإجراءات التأمينية الأسرية إلى زوال، لأن البشر يعتادون ظروفهم المعيشية بسرعة مرعبة ويضطرون لاعتناق مبادئ «ربنا يستر» و»خليها على الله» منعاً لتوقف عجلة الحياة عن الدوران. ورغم ذلك فإن عجلة عدم الاستقرار ومظاهر البلبلة تدور بسرعة: تظاهرات أفراد من الشرطة من أجل صرف حوافز وبدلات تأمين لجان الامتحانات في بعض المدن؛ مراقبون ينظمون وقفات احتجاجاً على عدم صرف مستحقاتهم؛ «تمرد» تجمع التوقيعات لإسقاط النظام؛ «تمرد» تجمع توقيعات من أجل الإبقاء على النظام؛ نظام مغمور بمشكلات عقود متراكمة، وشهور متأزمة، وأيام مستفحلة، وامتحانات نهاية العام.