سرد عدد من الروائيين والقاصين حكايات طريفة وطازجة عن المدن، التي شهدت طفولتهم، ورووا ملمحاً من علاقاتهم مع الأمكنة القديمة طبعاً، من هؤلاء من توقف عند شارع وهناك من تطرق إلى مدينة أو حارة، وبعضهم توقف عند الرواشين. وكشفت هذه الحكايات والتفاصيل عن مكان ثري ومدهش، قادر على إثارة الأسئلة والحكايات. كل ذلك جاء في ثلاث كتب أصدرتها وزارة الثقافة والإعلام ضمن سلسلة عنوانها: «ذاكرة المكان». وقال وكيل الوزارة للشؤون الثقافية الدكتور ناصر الحجيلان إن السلسلة «تأتي ضمن الإصدارات التي تشرف عليها الوكالة لإكمال المشاريع الثقافية، التي سبق إصدارها في سلاسل بلغت 17 سلسلة، تركز على الفنون والتراث والآداب واللغات والعادات والتجارب العالمية والمواقف الفردية والخبرات، وقد عُرضت للقارئ بأسلوب جذاب وبمنهج علمي يراعي الأصالة والإضافة المعرفية لكل مواد هذه السلاسل». ولفت الحجيلان إلى أنه من أجل الاستفادة من هذه المعطيات، التي يزخر بها المكان من خلال تأثيره في الإنسان وتفاعل الإنسان معه، «جاءت فكرة إصدار سلسلة «ذاكرة المكان» لكي تعرفنا على تفاصيل حياة المكان وتحولاته وتأثيره في تشكيل مخيلتنا ومساهمته في بناء معالم الكون في العقل وتكوين رؤية الإنسان للحياة». في الكتاب الأول من السلسلة وعنوانه «الطواف في ذاكرة مكة» تقول الناقدة أمل القثامي في كتاب «الطواف في ذاكرة مكة»: يجاور هذا المسجد (مسجد الإجابة) منزل الأديب كما يسميه سكان حارتنا الشاعر حسين سرحان، ولأن بيته على طريق مدرستي الابتدائية كنت في طريق عودتي أراه جالساً على كرويتته أمام باب بيته - إن كان هو كما يقال لنا –، ودائماً ما كنت أسأل والدي عن سر وجومه وصمته، ولمَ الناس حولنا يبتعدون عنه؟ ولمَ هو يبتعد عنهم؟ ما الذي يخيفهم من هذا الأديب؟ وحين كبرت عرفت السبب وحدي». ويكتب الزميل الروائي صلاح القرشي بعنوان: «الأماكن تتنفس»: كان المشوار بين المدعى والملاوي يختصر السوق المكي في ذلك الوقت وهو الوقت الذي أدركته طفلاً قبل أكثر من 35 سنة، لكنني الآن سأترك ذلك البدوي والثوب النادر الذي يبحث عنه، وسأنطلق من الحرم الشريف متجهاً صعوداً نحو المدعى والغزة، مروراً بالملاوي ثم المعابدة إلى الخانسة الحارة التي وُلدت وعشت بها سنوات الطفولة والشباب الأول». ويسرد القاص محمد علي قدس عن السويقة: لا تزال رائحة تراب أرض زقاق بيتنا القديم في مكة الطاهرة، عالقة في الذاكرة والفؤاد، حيث ولدت ونشأت في طفولتي المبكرة، رائحة تذكرني برائحة أخرى لها نكهة مختلفة وعبق له روحانيته وتجلياته، هي رائحة الحصى الصغير الذي كان يغطي المساحات الأكبر حول الكعبة والمطاف في المسجد الحرام، التي تسمى «الحصوة». أما محمود تراوري فيكتب: كثيراً ما تسلقت جبال مكة، سففت ترابها في نمرة والمحصب، تمرغت في (حصوة) الحرم، سربّت إلى نسوغ جسدي قطرات زمزمها، وعندما كبرت استحال كل ذلك إلى كلمات، وجمل تفاقمت وهمت على الورق قصصاً ومقالات ورواية، وقت أن اتسعت حدقتا عيني فلم تبصرا إلا القليل مما تبقى من مكة». وجاء الكتاب الثاني بعنوان «المدينة تشرق من ثنيات الوداع» وفيه يسرد الشاعر أحمد إبراهيم البوق جزءاً من علاقته بالمدينة، فيقول: «أينما يممت وجهك في المدينة تصافحك يد التاريخ أو تصفعك، لا فرق في نظر طفل في الخامسة، فحين يذهب رفقة أبيه إلى الحرم لصلاة المغرب أو العشاء ثم يعرج به في مدخل شارع العينية لتناول «الدندورمة» الآيسكريم التركي المطعم بالفستق من محل العم عثمان، فإن رحلة الصلاة هذه مصافحة حنونة ليد التاريخ». ويكتب القاص حسين علي حسين: «أذكر أن للبيت «روشان» يطل على ساحة الحوش، ومن قاعدة «الروشان» يتدلى - كما هي عادة أهل المدينة، إناءان أو أكثر من الفخار، تملأ يومياً بالماء من البئر الموجودة قريباً من الدار، وأحياناً يدنى على آنية الفخار للبخور ليكون ماؤها زكي الرائحة». فيما يكتب الناقد محمد الدبيسي: «على عرصة من عرصات «واديها المبارك» رأت عيناي نورها، وتفتح إدراكي على عوالمها الأولى، في تلك الضاحية المعروفة ب (سلطانة) الممتدة من (ثنية الوداع) إلى مجرى وادي العقيق، التي يتناقل المدنيون في موروثهم أن (سلطانة) هذه اسم سيدة تركية ثرية، جاءت إلى المدينة في بدايات القرن الرابع عشر الهجري». ويأتي الكتاب الثالث بعنوان: «الرياض مدينة الصحراء والخزامى»، وفيه تكتب فاطمة الحسين، قائلة: «كان خلف بيتنا جنوباً بمسافة قريبة إسطبلات الحرس الوطني. أما شرقاً فكانت حديقة الحيوان على شارع الأحساء، وكان الليل ينقل لنا زئير الأسود وصهيل الخيول قبل أن يزداد عدد المباني ويطغى هدير المكيفات على أصواتها». ويكتب أيضاً القاص تركي الماضي قائلاً: «ذهبت مع أخي لساحة الصفاة. قرأ الجندي بيان الداخلية وواقعة القتل. كان القاتل جاثماً على ركبتيه ورأسه مغطى بقطعة قماش بيضاء، ومنحنٍ برأسه إلى الأرض. حمل السياف سيفه ثم هوى بها على رأس القاتل». الكاتب الصحافي عبدالله الكعيد يكتب ذكرياته عن الرياض قائلاً: «توقف في شارع السدرة يمج هواء وسط المدينة في رئتيه، ثم سار مدهوشاً حتى استوقفه في منتصف شارع الثميري دكان صغير يصدح من داخله صوت طلال مداح. الفتى يعشق طلالاً فاشترى بثلاثة ريالات شريط كاسيت. الوقت كان عصراً، ولا بد من العودة قبل الغروب».