لحظة كتابة هذه السطور لا يزال مجهولاً مصير مدينة القصير، ومدى قدرة مقاتلي الجيش الحر على الدفاع عنها. نظرياً، يمتلك حزب الله وقوات النظام الكثافة الأكبر من النيران والقدرة على قصف المدينة بالأسلحة الثقيلة، فضلاً عن توافر خطوط الإمداد الخلفية، ما يرجح سير المعركة لمصلحتهما بصرف النظر عن الكلفة التي يتضح أنها ستكون باهظة على الطرفين. أي أن الكسب المتوقع لمقاتلي الجيش الحر يتوقف عند مقدار الخسائر التي سيوقعها في صفوف القوات المهاجمة، ما لم يحدث تطور دراماتيكي، يُستبعد حدوثه في الواقع، ليقلب المعادلة الحالية. على مساحة لا تغطي المدينة بأكملها ينتشر مقاتلو الجيش الحر، وهي منطقة منبسطة عموماً وتخلو من التضاريس الجغرافية التي تساعد على خوض حرب عصابات طويلة، باستثناء حرب الشوارع التي قد ترافق اقتحامها. لذا تبدو المعركة الفصل رهن تقديرات الطرف المهاجم، ومدى توقعاته واستعداده لتكبد خسائر بشرية ناجمة عن الالتحام المباشر، بخاصة من جهة «حزب الله» بما أن النظام أثبت في معارك سابقة استهتاره بأرواح مقاتليه. إذاً، لماذا كل هذا الترقب والانتظار إزاء معركة مكشوفة إلى هذا الحد؟! مَن يتابع التحليلات التي تعجّ بها وسائل الإعلام المواكبة للمعركة سينظر إليها كأنها المعركة الفصل بين الجيش الحر والنظام، وسينسى أن القصير قبل سنة لم تكن محررة، ولم يكن هناك قبل هجوم «حزب الله» الأخير تركيز على المكانة الإستراتيجية والإعلامية التي تسهب التحليلات الآن في شرحها. لنتذكر أن شيئاً مشابهاً من التضخيم الإعلامي رافق أيضاً معركة بابا عمرو، وحينها أيضاً جرى تصوير المعركة على أنها أم المعارك بين الثوار والنظام؛ احتل النظام بابا عمرو وتبين أنها لم تكن بذاك الحجم الإستراتيجي المؤثر في سير المعارك اللاحقة، فبعدها سيطر الثوار على حلب وريفها وعلى محافظة الرقة، وتقدموا في مواقع عدة في ريف دمشق. ليس تقليلاً من شأن القصير ومن صمودها أن نقول إنه جرى تلبيس معركتها باعتبارات تفوق أهميتها الحقيقية بالنسبة إلى الثورة، أو بالأحرى تم تغليب الاعتبارات الإستراتيجية التي تخص «حزب الله» على تلك التي تخص الثورة. فخط الإمدادات التي تُشحن من الساحل السوري إلى الحزب حيوي بالنسبة إليه أكثر مما هو حيوي بالنسبة إلى الثوار الذين يستهدفون بالدرجة الأولى خطوط إمداد قوات النظام، أما الإمدادات المعاكسة التي تأتي من الحزب إلى النظام فخطوطها لا تزال مفتوحة في مناطق أخرى مثل تلك التي تقع على مشارف الزبداني. هنا لا تكتسب التحليلات التي تضع القصير بمثابة العقدة الواصلة بين دمشق والساحل، وأهمية ذلك بالنسبة إلى النظام، لا تكتسب صدقية كبيرة، لأن الطريق بين دمشق والساحل بقي مفتوحاً على رغم تحرير القصير، وهذا الطريق له مسارب أخرى كثيرة أهمها منطقة القلمون التي لا تشهد حضوراً فاعلاً للجيش الحر حتى الآن. لعل قسماً لا بأس به من التضخيم ينساق وراء اعتبارات «حزب الله» والنظام، وإن كانت معركة القصير إستراتيجية بالنسبة إلى الأول فهي ذات أهمية معنوية للثاني، ويجدر بنا ملاحظة تركيز إعلام النظام على هذا الجانب بعد فشله في وعود سابقة أمام مناصريه، أهمها وعده باسترجاع حلب خلال عشرة أيام؛ الوعد الذي مضت عليه أشهر طوال من دون تنفيذ. فالنظام هذه المرة اختار مسرحاً لانتصار سهل المنال قياساً إلى مناطق أخرى، وهو أيضاً مسرح مناسب ليظهر حلفاؤه في الخارج إلى العلن ويدشنوا من خلاله واقع مشاركتهم المباشرة في الحرب. لا يخفى فضلاً عن ذلك تعطش «حزب الله» إلى تسجيل انتصار يعود به إلى أنصاره، لعله يعوّض به عن مشهد الجثث العائدة إلى لبنان إثر معارك واشتباكات صغيرة لم يحققوا فيها شيئاً يذكر، من دون أن نغفل عن الاعتبار المعنوي المتمثل بالكشف عن توسع إمبراطورية الحزب التي أصبحت تطاول خطوط إمداده خارج لبنان! للمعارضة السورية أيضاً أسبابها للمشاركة في التهويل الجاري، بخاصة من جهة تركيزها على تدخل «حزب الله» وإيران في العدوان على القصير، وبناء على ذلك محاولة استجلاب الدعم والتعاطف من أعدائهما. لكن اندفاعها في التهويل قد ينقلب عليها معنوياً في حال سقوط المدينة، وهذا ما تبشر به التحليلات التي ترى في المعركة نوعاً من الضغط عليها لإجبارها على الدخول في الحل السياسي، لذا لا يُستبعد أن تكون قد ابتلعت الطعم بتركيزها الإعلامي على المدينة بعد فوات الأوان، وحيث لم يعد بإمكانها تدعيم صمودها على نحو جاد وفعال. ضمن المعطيات السابقة وحده العامل الإنساني له صدقية فعلية، فاقتحام «حزب الله» وقوات النظام للمدينة يُنذر بمجازر بشعة بحق المدنيين، وإعلام الطرفين لا يخفي تعطشهما لذلك وهو يبث تلفيقاته عن العثور على مركبة إسرائيلية واعتقال ضباط إسرائيليين هناك، في ابتذال واضح لتبرير المذابح المقبلة. ذلك لا يلغي احتمال تعرض عناصر الجيش الحر لانتكاسة كبيرة، إلا أن من المرجح بقاء خسائره محدودة بخسارة معركة في سياق حرب طويلة الأمد، وليست المرة الأولى التي يُضطر فيها المقاتلون إلى الانسحاب من منطقة محررة، ثم يعاودون الاستعداد والتمركز لاسترجاعها أو لتحرير منطقة أخرى. أما قوات النظام فقد وقعت مرات عدة تحت وهم استعادة السيطرة، وهي غير قادرة على بسط سيطرتها إلا بالوجود الميداني الكثيف والمستمر، الأمر الذي يصعب تحقيقه إلا في مناطق محدودة بسبب المساحة الشاسعة لرقعة الحرب. ربما هذه المرة يوكل أمر السيطرة على المدينة ل «حزب الله»، وحينها سيجد الحزب نفسه في الموقع الذي كانت عليه قوات الاحتلال الإسرائيلية في جنوب لبنان قبل عام 2000. غير أن العامل الأهم، والذي يجرى تهميشه في التحليلات المخصصة للمعركة، هو أننا إزاء ثورة مركّبة نفقد الكثير من هامش التوقعات التي تتيحها الحروب الكلاسيكية، وقد يكون ما بعد القصير واقعاً يدحض مبالغات النظام و «حزب الله». على كل حال، سيكون واقعاً باهظ الثمن، لا بلاغة وإنشاء مجانيين على غرار «ما بعد حيفا».