من يقرأ مواقف السعودية المشرفة طوال العامين الماضيين يدحض بما لا يدع مجالاً للشك الانتقادات الجاهلة العمياء، والافتراءات، الآن، بحق المملكة وحكومتها يذكرنا بالدندنة التي حصلت قبل عام، حين انتشر خبر يقول: «المملكة تمنع التبرعات لصالح الشعب السوري»، بسبب صدور أوامر بتحديد جهات وهيئات رسمية تقوم بجمع التبرعات لصالح الشعب السوري، حفاظاً على أموال المتبرعين من الاختلاس. والتقطه بعض المرجفين، آنذاك، وحرفوا فيه، ليصل الأمر إلى أن دونوا على صفحاتهم، خبراً ملفقاً مفاده «النظام السوري يشكر المملكة العربية السعودية لمنعها التبرع للإرهابيين». الذي يحز في القلب أن مثل هؤلاء جحدوا مواقف المملكة منذ عهد الملك عبدالعزيز، رحمه الله، تجاه الشعب السوري، فقد كانت العلاقة على مستوى الشعبين على أفضل حال، ولم تتأثر بشكل العلاقات الرسمية بين الدولتين البتة، وكان أبناؤه، الملوك، رحمهم الله، خير عون وسند للشعب السوري في كل محنة ونازلة تعرض لها منذ عهد الأسد الأب. ولا مشاحة في القول: إن الدولة الوحيدة التي نددت بمجزرة مدينة حماة عام 1982 في أروقة السياسة العالمية كانت هي المملكة، بل إنها فتحت أبوابها لاستقبال السوريين الفارين من أتون تلك المجازر، ومنحت إقامات للآلاف منهم، آنذاك. ولكن يبقى الأمر أن نور الشمس لا يمكن طمرها تحت رطانة ودندنة بعض المتفلسفين. أظهر ما يتجلى من صور وقوف حكومة المملكة مع الشعب السوري، أنه لم يتناه إلى أسماعنا يوماً أن المملكة اضطهدت سورياً واحداً مقيماً على أرضها بسبب مواقف نظام آل الأسد الأرعن تجاه القضايا العربية والإسلامية، الذي تمثل بعضه في إقامة تحالف سوري إيراني على حساب التحالف القومي العربي في الحرب العراقية الإيرانية، وبسبب التوجه الطائفي السوري في دعم حزب الله الشيعي في لبنان على حساب أهل السنة؛ ثم أتى بعده مقتل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وتصريحات بشار الأسد في حرب صيف عام 2006 بين إسرائيل وحزب الله، حين وصم، في خطاب له أمام مجلس الشعب، زعماء دول الخليج بأنهم أنصاف رجال. منذ بداية الثورة كان خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يدرك بحنكته المعهودة أن الأنظمة زائلة، وأن الشعوب باقية. فكان السبّاق في تحديد موقفه من النظام السوري، حين أدان هذا النظام الأرعن، بسبب استعماله آلة الحرب لقمع المتظاهرين السلميين. وخاطب الشعب السوري بكلمات مقتضبة، لكنها تضمنت الكثير من المعاني الواضحة التي لا غموض فيها، بأنه يدعم صمود هذا الشعب أمام الآلة العسكرية للنظام الدموي القمعي. وعندما لم يستجب النظام الدموي لمناشدة خادم الحرمين الشريفين لوقف القتل، أمر بسحب سفيره من سورية، احتجاجاً على المجازر التي ارتكبها النظام السوري بحق الأبرياء العزل من النساء والأطفال. فكانت المملكة، آنذاك، من أوائل الدول التي سحبت سفراءها من دمشق. وحين تمادى النظام الدموي السوري في غيه ووحشيته أتى بعدها الموقف المشرف الثاني لخادم الحرمين الشريفين، حين أمر بطرد السفير السوري من الرياض، تلاه طرد القنصل من مدينة جدة. فكانت المملكة أيضا من أوائل الدول التي طردت السفراء السوريين من أراضيها. وفي السياق ذاته كان لوزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل مواقف مشرفة تجاه الشعب السوري، شهد لها أيضاً القاصي والداني، حين أعلن مرات عدة بضرورة دعم الشعب السوري بالسلاح ليتمكن من الدفاع عن نفسه، وبإقامة منطقة عازلة لحماية المدنيين. من الشرعي طرح السؤلات الآتية: ألم تلعب المملكة دوراً إيجابياً، بشقيه العسكري والإنساني، تجاه الثورة، جعلها تصمد أمام هذا النظام الدموي طوال عامين كاملين، على رغم الدعم الروسي والإيراني وشيعة العراق ولبنان له؟ وهل من الحكمة والأصوب أن يخرج بعض المسؤولين السعوديين ليتفاخروا بقولهم: لقد قدمنا كذا وكذا، وفعلنا كذا وكذا؟ ولكن في الوقت عينه من الكلام المباح، الذي لا يستطيع أحد إنكاره، أن للمملكة دوراً كبيراً في انتزاع قرار الجامعة العربية الأخير، بشأن السماح لكل دولة عربية بأن تدعم المعارضة بالسلاح بالطريقة التي تراها. نستلهم من ذلك كله أن المملكة لديها رغبة صادقة في دعم المعارضة المسلحة حتى إسقاط النظام. هذا الأمر ربما لا يدرك غائياته وأهدافه إلا الراسخون في العلم. لا غرو في إطلاق بعضهم الأحكام الجائرة على المملكة وأهلها بأن السعودية تنصلت من مسؤولياتها تجاه الشعب السوري؛ لأن من يطلق مثل تلك الأحكام يستجهل أن هناك ما يسمى أعرافاً دولية وديبلوماسية لا يمكن تجاوزها، فالدعم العسكري الخفي شيء، والانزلاق في حرب إقليمية شيء آخر. فهي مسألة مزدوجة المبنى والمعنى. علاوة على أنه لم يعد خافياً أن الكثير من أبناء المملكة دخلوا سورية نصرة للشعب، واستشهد بعضهم في المعارك. وإذ ننطلق من مفهوم إحساس حكام المملكة بمسؤولياتهم الجسام تجاه الشعب السوري إلى واقع الحال المعيش في أروقة السياسة العالمية. ومن تتبع مجريات الأمور الديبلوماسية في الشأن السوري، والتفاهمات الأميركية الروسية، نلاحظ أن المؤشر الأبرز لانتقال الملف السوري إلى المملكة، هو أن إيران الداعم الرئيس للنظام أدركت متأخرة أن مفتاح الشأن السوري هو بيد المملكة. فقد هرع وزير الخارجية الإيراني علي صالحي، الأسبوع الماضي، لمقابلة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، يستجدي منه التوقف عن دعم الثوار على الأرض. علّ هذا الأمر يكون أداة ضغط على الثوار على الأرض، قبل عقد المؤتمر الدولي آخر هذا الشهر، بعد رفضهم بيان الهيئة السياسية للائتلاف، الذي نص على الموافقة على المفاوضات مع النظام، بغض النظر عن شرط تنحي الأسد مسبقاً. * باحث في الشؤون الإسلامية.