عبر عقود، جرت محاولات عدة لإفراغ القضية الفلسطينية من مضامينها كقضية سياسية عربية، ومحاولة تبسيطها في أشكال أخرى وإدخالها مسارات متعددة، لتشتيتها وللخروج من جوهر القضية، أي التعامل معها على أنها قضية احتلال أرض عربية من الصهاينة، تارة بنزع عروبة القضية، وأخرى باعتبارها مأساة إنسانية أو قضية لاجئين. تمت محاولات – نجحت عملياً على المستوى السياسي – بتحويل مسألة احتلال إسرائيل لأراضٍ عربية، إلى قضايا دول قطرية، من خلال عملية «فصل المسارات» فأصبحت القضية اليوم ليست أرضاً عربية محتلة – بالنسبة للساسة العرب - بل هي احتلال لأراضٍ سورية، ولبنانية، وفلسطينية، بعد تسويات مع الأردن ومصر، هذا ما نجح فيه الإسرائيليون ورعاتهم الدوليون بشكل واضح، وهذا ما أراده الساسة العرب آنذاك من أجل الخروج من لومهم عن تقصيرهم تجاه القضية، أو تحقيق انتصارات جزئية بتحرير أراضيهم الوطنية، فاليوم لا تتعدى القضية اعتبارها قضية الفلسطينيين بالنسبة للحكومات العربية، التي تقوم باستثمارها دعائياً، أو تجمع لها التبرعات، وكأن هؤلاء البشر هم ضحايا كارثة طبيعية، لا ضحايا صراع سياسي واحتلال. خطورة هذه المسألة ليست في تمثلاتها السياسية والتعامل الدولي فقط، بل بشكل أكبر في تسرب هذا الشعور إلى الشعوب العربية، وفقدانهم هذا الإحساس بأن لهم أراضي عربية تم احتلالها وقتل وتشريد سكانها. هذا ما يجعل بعضهم يعبر عن ابتهاج بغيض بقصف إسرائيل لدمشق خلال الفترة الماضية، وكأن دمشق ملكية خاصة، أو مزرعة لنظام بشار الأسد، وليست أراضي عربية تعرضت لاعتداء من العدو الصهيوني، وكأن إدانة قصف إسرائيل لدمشق تواطؤ مع بشار على سفك دماء السوريين! النجاح في تحويل القضية من قضية قومية إلى إشكاليات لدول قطرية، يراد له اليوم أن يستكمل باعتبار القضية الفلسطينية عبارة عن «مشكلة لاجئين» و«مأساة إنسانية» يمكن أن تحل من خلال عملية «تبادل للأراضي». ومسألة تبادل الأراضي ليست جديدة بالمناسبة بل مطروحة منذ سنوات طوال، ويتم كل مرة محاولة تمريرها تحت غطاء سياسي مختلف، تارة تحت لافتة «دولة فلسطينية متصلة الأطراف»، وأخرى تحت عنوان «عودة اللاجئين». اعتبار الصراع مع إسرائيل مشكلة لاجئين يجهل الواقع والتاريخ، فالحركة الصهيونية لم تكن حركة تحمل طابعاً «إنسانياً» تحاول أن تجد أرضاً يعيش فيها ضحايا «الهولوكوست» النازي في حق اليهود، بل أرادت وطناً قومياً يهودياً في الأراضي العربية، لذا رفضت باكراً فكرة إنشاء دويلة يهودية في إفريقيا تحت الانتداب البريطاني، كما رفضت وبشكل قاطع فكرة إنشاء دولة عربية/ يهودية ثنائية القومية على الأراضي الفلسطينية التي طرحها باكراً الناشط الصهيوني «يهود ليب مجنيس». فالمسألة بدأت مسألة قومية بامتياز، لم تجد ما يكافئها من وعي قومي لدى العرب آنذاك، على رغم أن العرب قاتلوا جميعاً ضد هذه الدولة التي تم استزراعها بتواطؤ دولي. إسرائيل التي خرجت من رحم الحركة الصهيونية تريد أن تستكمل مسارها العنصري من خلال تمسك الساسة الإسرائيليون اليوم بشعار «يهودية الدولة» كورقة ضغط تفاوضية. مع الإشارة إلى أن يهودية دولة أو مسيحيتها، أو اعتبار وطناً ما للأكراد أو الأرمن ليست مشكلة بحد ذاتها، بل المشكلة أن ينشأ هذا الوطن على أنقاض شعب ومن خلال احتلال لأرض بشر آخرين، وأن تمارس الدولة تمييزاً عنصرياً ضد مواطنيها من الأعراق وأتباع الديانات الأخرى، كما يحدث في إسرائيل في استكمال لنكبة الاحتلال. من موضوع «يهودية الدولة» يمكن تأكيد أن القضية سياسية وقضية احتلال، وليست قضية لاجئين، لأن الإصرار على يهودية الدولة يستهدف أمراً آخر، علاوة على رفض عودة اللاجئين إلى أراضيهم التي شردوا منها، وهو ممارسة تمييز عنصري ضد «عرب 48»، والتعامل معهم على أنهم مواطنون «درجة ثانية» من خلال تعريف الدولة بأنها دولة يهودية، وبالتالي استمرار ما يلاقيه عرب الداخل من طمس لهويتهم العربية، التي أسرف بالحديث عنه نواب العرب في الكنيست الإسرائيلي. القضية الفلسطينية ليست مشكلة إسكان يمكن أن تُحل بدفع تعويضات، أو تبادل لأراضٍ، أو منح اللاجئين هويات في أوطان بديلة، أو تسوية «إنسانية» لا ترى المسألة على أنها مسألة احتلال وإرث عقود من الصراع، وتركة مجازر دموية وتسوية قرى ومدن وتشريد سكان، وتواطؤ دولي وثلاث حروب عربية – إسرائيلية، بل مجرد بشر يقطنون في مخيمات. هذا الوعي بالقضية ليس ترفاً، بل هو واجب قومي يقع على عاتق المثقفين والكُتّاب العرب، فعبر عقود عبرّ العرب عن إستيائهم من أن الصراع العربي الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ليست مفهومة بشكل كافٍ من الشعوب الأخرى، فكان اللوم يقع باستمرار على تقصيرنا بالحديث عن حقنا وأرضنا أمام الآخرين، والتأكيد على أننا نستطيع حشد رأي عام عالمي مؤيد للقضية العربية، لكن اليوم وفي الذكرى ال65 للنكبة، الذي يوافق 15 من أيار (مايو)، نجد أن القضية بدأت تفقد «قواعدها» بنشأة جيل عربي لا يرى في الصراع إلا مأساته الإنسانية، لا يراها قضية تمس كرامته وأمن أمته بشكل مباشر، أو يفرح بقصف إسرائيل لعاصمة عربية تأثراً بالشحن النفسي والعاطفي ضد هذا النظام أو ذاك، متناسياً أن هذه الأنظمة وطغيانها واستبدادها لا يغير من عروبة هذه الأرض وهذه الشعوب، وهذه الأزمات العابرة على أرضنا العربية لن تغير من حقيقة أن إسرائيل تحتل أراضينا، وقامت على قتل وتشريد أبنائنا. * كاتب سعودي. [email protected]