«سالفة طويهر» مجموعة قصصية أصدرها القاص جعفر عمران، وتكونت من سبع قصص متفاوتة في الطول. ومنذ أن نطالع عنوان المجموعة سندرك أنها تحتفي بالناس المهمشين، وتحاول الغوص في أعماقهم وأحلامهم وحياتهم وآلامهم التي يجهلها الكثير من المجتمع، فكلمة (سالفة) كلمة عامية تتجاور للاسم المصغر (طويهر)، وحينما تجاورا فإنهما قد أوحيا ربما بما في باطن المجموعة من عوالم إنسانية مغيبة. المجموعة التي تُروى بضميري المتكلم والغائب، وتتراوح بينهما، وتتنوع كذلك شخصياتها الرئيسة بين الذكر والأنثى، وإن كانت الشخصيات الذكورية تحفل بالنصيب الأكبر في قصص المجموعة، بينما هناك أنسنة الملف العلاقي التي تشكل الشخصية المحورية في القصة الأولى من المجموعة. هذه المجموعة التي لفت انتباهي فيها واستطاع أن يجذب حواسي هو تصويرها العميق للشخوص البسيطة التي التقطت من الحياة اليومية في المجتمع الأحسائي، ولذلك نجد ملامح الشخصية الأحسائية في المجموعة من خلال حوارها وارتباطها بالمكان الأحسائي وأبرز معالمه، وهذه الشخوص التي نرثيها تارة وتارة تدهشنا بأحلامها وأمانيها، ونتألم لأجلها لا يمكن أن نقرأها من دون أن يصبغنا التألم والتوجع، فالقاص جعفر يصور أحلامها ويترك لسرده أن يتعمق ويدخل أحلامها ولا يكتفي بالمعاناة، فالأحلام تتكسر على الأرضية القاسية، فلا يمكن ألا تدهشك شخصية طويهر بأحلامه الصغيرة، التي يراها كبيرة، ولا تتعدى سوى الحياة الكريمة والراتب الذي يفي بذلك. ولا يمكن ألا تتعاطف مع سمير في قصة زفاف العطر والشخصية المحورية في (البحر أمامي) إنها شخوص حفرت أعماقها عن طريق المونولوج والتوغل في الأعماق. هذه النصوص التي تفاوتت في الطول والقصر تكون حيناً متماسكة كقصة «البحر أمامي»، وكذلك «فطيرة الملاهي» و«الفقيد السعيد»، وإن بصورة أقل تماسكاً. وتكون ممتدة في زمنها ومشتتة بسبب تعدد أماكنها كقصتي «زفاف العطر» و«سالفة طويهر» التي تكاثرت فيها الشخصيات، وهو ما أضاع الخيط الرئيس في القصة. ولا ينبغي أن نغفل أن النصوص وردت فيها أسماء لأماكن واقعية كمشتل العمران ومجمع الراشد، وأنها اعتنت بتفاصيل المكان، وهذا يجذب المتلقي ويجعله يتخيل المكان بصورة أدق كما في نص «سالفة طويهر» و«مالت عليه». ولأنه من الصعوبة التحدث عن كل قصص المجموعة سوف أكتفي بقصة «البحر أمامي» وأتحدث عنها في الأسطر التالية. منذ البدء في الشروع في قراءة القصة ستجد نفسك أمام أزمة داخل ذات الشخصية الساردة للنص «ليس لي إلا النظر». فهذا الافتتاح تجعلك في قلب الأزمة حيث وضعية المشاهد المتفرج المتلقي بالنظر لما يدور أمامه، وهكذا هي الشخصية مكتفية بالنظر فقط، ويعاضدها التقابل في الحركة (تمرح وتسرح) والمكان هو كالسجن على رغم انفتاحه، والتشبيه بالسجن هنا يصف الحالة النفسية والشعورية، وأيضاً تأتي الجدران لتشكل فاعلاً إضافياً لتعميق الأزمة الداخلية. وكلمة (ليس) تتكرر مرة أخرى في صدارة الفقرة الثانية، التي بعدها يبدأ السرد بالشروع في أزمة الشخصية المحورية التي لا ندرك اسمها. هذا الفعل الذي يكتفي بالفرجة والمشاهدة يحفر الذات ويشكل الأزمة في داخل الشخصية حيث هي العامل المثير للشهوة حيث بحر النساء المتلاطم والعطور النسائية التي يكتفي بشمها فقط، الرائحة والجسد عاملان من عوامل مثيران للشهوة، وهذه النساء عامل حافز لتأزيم الشخصية، لذلك تعود إلى البيت كل يوم وقد امتلأت نفسه بالنساء المثيرات. وهذا المكان المفتوح (بوابة المشغل) في السوق النسائي، والمكان المغلق (البيت كلاهما يتفقان ويتعاضدان على قهر هذه الشخصية. وأزمة الشخصية تتجلى في عجزه المادي، فهو شخصية بائسة تعمل حارساً لمشغل، وهذه الوظيفة لا تملأ محفظته، وبالتالي لا يستطيع إرضاء زوجته الجشعة التي توصف من خلال المظهر الخارجي «تستقبلني بملابسها التي تبعث على الخيبة والبكاء»، ونحن إذا تأملنا هذه الفقرة يتضح فعل المفارقة التي تبعث الخيبة والبكاء في داخل الشخصية، فحتماً هناك تناقض وتضاد في الصورة بين النساء التي في السوق «أجلس والنساء بعطورهن...». وبين زوجته ذات المظهر الرديء. فنحن أمام صورتين متضادتين، فالنساء صاحبات الأكياس المنتفخة التي تدل على الاكتناز من الناحية المادية بينما هو صاحب أكياس فارغة، وإذا ما تتبعنا جلوسه أمام المشغل الذي يشكل عاملاً ضاغطاً شديد الحساسية، لكنه ساكن بلا حركة بينما النساء هن من يتحركن، فثمة سكون خارجي يتضاد مع حركة داخلية مؤلمة في داخله. وإذا ما تأملنا الزمن في القصة فهو (المساء) الذي يرمز إلى الراحة والسكون والاستقرار بإخراج الهموم الذاتية، لكن الليل والقمر لا يكونان سكناً إلا بامتلاء الجيب الذي يعبر به نحو عالم اللذة التي يمارسها لليلة واحدة بينما يعيش بقية الليالي وهو يرى أمواج النساء ممتلئاً بالألم وعدم قدرته على الحصول على ما يهدئ روعه. هذا النص الذي يكشف ذات أحد شخوص قصص جعفر عمران الذي اعتنى برسم العالم الباطني لشخوصه، وكشف عن اغتراب هؤلاء في حياتهم، فثمة عالم يرفل بالعطور والأكياس المنتفخة، وهناك عالم مكبوت مخنوق بائس، عالم متحرك في الخارج وشخوص يقبعون في دواخلهم بأحلامهم وآلامهم من دون أن يحركوا شيئاً من الواقع، ربما هي قسوة الحياة وشظفها. ألا يدل أن هذه الشخصية كي تحصل على ما هو حق لها، وكي تسد الاحتياج الجسدي والنفسي، ويشعر بلذة أنْ يدفعَ شيئاً للحصول على ما يريحه، وهو حق مشروع له، أننا أمام شخصية متأزمة جداً تعاني اغتراباً شديداً في حياتها؟!