حتى نهاية القرن الهجري الماضي كانت أحوال المهنيين السعوديين تسير بسلاسة وفي خط متوازٍ مع بقية الأعمال، وكانت محال المهنيين تجاور محال المطاعم والمغاسل، وحب العمل المهني متأصلة لدى السعوديين منذ عقود حتى أن الكثير من العوائل لقبت بأسماء المهن والحرف التي تمارسها ويتفاخرون بها بمهنتهم، ولهذا تجد الكثير منهم تنتهي ألقابهم بالمهنة التي كانوا يمارسونها في الماضي، مثل الساعاتي، النجار، الحلواني، الخيمي، الصائغ، الجزار، المجلد، والخياط، وطابور طويل بألقاب السعوديين التي تحمل المهن التي كانوا يعملون عليها. وحينما افتتحت الجامعات والكليات وبدأ التوسع العلمي، لم تتمكن مؤسسات التعليم المهني الحفاظ على هؤلاء المهنيين، تدريجياً انخفض عددهم، وانتهت الأسر المهنية ولم يتبق سوى ألقابهم، وبعد 35 عاماً من تأسيس المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني، خرج محافظ المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب التقني الدكتور علي الغفيص ليقول لنا إننا بحاجة إلى 40 عاماً حتى يكون لدينا اكتفاء ذاتي بالمهنيين والحرفيين والتقنيين السعوديين... ربما اتفق مع تصريحات الدكتور الغفيص، لأن وضع سوق المهن والحرف في السعودية أفسدته العمالة الوافدة الرخيصة وغير المدربة، ولم يصاحب هذا الانفلات في سوق الاستقدام ضوابط ولا قيود، فالجميع كان يتعلم «الحلاقة» على رؤوس المواطنين، ولهذا فضل المهنيون السعوديون الانسحاب حفظاً لكرامتهم ومهنتهم، إلا أنني أتساءل: هل صحيح بعد 40 عاماً سيكون لدينا اكتفاء في المهن؟ حالياً يعمل أكثر من خمسة ملايين وافد في مجال المهن والحرف والأعمال التقنية، فالسعودية تنفق نسبة أقل من الناتج الإجمالي المحلي على التدريب التقني والمهني، ونسبة أعلى على التعليم العالي مقارنة مع أي دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ونتيجة لذلك فإن قطاع التدريب التقني في السعودية لا يلبي حاجات سوق العمل، فالإنفاق السعودي على التدريب من إجمالي الناتج المحلي 0.24 بينما تنفق على التعليم العالي 1.85، فيما تنفق نيوزيلندا 1.13 من إجمالي ناتجها المحلي على التدريب التقني، و1.40 على التعليم العالي، طبعاً الفارق كبير بين نيوزيلندا والسعودية، إحداهما تتربع على قائمة الدول التي تنفق على التدريب التقني، فيما تقبع الأخرى (السعودية) في ذيل القائمة بإنفاق ضئيل جداً على التدريب التقني. المشكلة متعددة ولها جوانب مختلفة، فافتتاح المراكز والمعاهد والكليات المهنية والتقنية لا يكفي لزيادة الإقبال لتغطية حاجة السوق، فالمنافسة غير شريفة في السوق من عمالة رخيصة تم استقدامها وأيضاً غير مؤهلة، وسوق مفتوحة لكل من يريد أن يدخل إليها من دون ضوابط، فالعمالة الوافدة التي تعمل في المهن والحرف دخلتها من دون قيود أو شروط أو اختبار، ولا أحد يسأل عن شهاداتهم، لهذا يحتكرون السوق ويتحكمون في الأسعار، واليوم ينفق السعوديون 35 في المئة من دخلهم السنوي على الصيانة، إنما 100 في المئة تذهب لجيوب العمالة الوافدة غير المدربة والمؤهلة، فيما توضع أنواع الشروط كافة التعجيزية والاختبارات الصعبة إذا أراد السعودي أن يعمل في العمل المهني أو يفتح محلاً، ولا توجد جهات رقابية وميدانية تراقب سوق العمل المهني وتتأكد من مهنيتهم، كل هذه الفوضى جعلت العامل المهني السعودي خارج دائرة المنافسة والاهتمام، أما خريجو الكليات والمعاهد التي يتخرج فيها أعداد ضعيفة وهزيلة فهي تذهب إلى مؤسسات الدولة وبعض الشركات، فخريجو الكليات التقنية في السنوات الخمس الماضية كان عددهم نحو 100 ألف خريج، حصل غالبيتهم على وظائف، وبحسب تقرير المرصد الوطني للقوى العاملة فإن 73 في المئة من الخريجين ملتحقون بأعمال، ويبقى ما نسبته 27 في المئة موزعون كالآتي: 3 في المئة يكملون دراستهم الجامعية، و16 في المئة يبحثون عن عمل «حافز»، و8 في المئة لم يتمكن المرصد من الوصول لمعلومات عنهم. الآن لاحظوا معي 16 في المئة يبحثون عن عمل، هل لكم أن تتخيلوا من بين خمسة ملايين وافد في سوق العمل المهني، لا يجد 16 ألف سعودي من خريجي كليات تقنية عملهم، فكيف نراهن أننا نستطيع أن نوفر عملاً لأكثر من مليون سعودي في هذا المجال خلال السنوات المقبلة. لا يمكن بهذه الطريقة أن نقتنع بأن سوق العمل المهني تسير نحو طريق آمن وجيد، المهني السعودي لا يجد حماية لوظيفته في السوق ولا أحد يقف بجانبه، مؤسسات الدولة تحمي المصانع السعودية بدعم مالي وفرص الحصول على عقود في المناقصات الحكومية، وتحميها من الصناعات المستوردة التي تنافسها، فيما لا تحمي العامل المهني والحرفي السعودي، بعد تخرجه تتركه في الشارع من دون مزايا ولا مغريات ولا تأمين يجعله يقدم للعمل المهني بكل أمان. حتى صناديق التمويل والقروض ليست لديها برامج لتمويل مشاريع مهنية. وهذه المهن تمتص الكثير من البطالة وتخلق فرص عمل جيدة للشباب ودخلاً عالياً، فمثلاً عامل مبرمج قنوات فضائية وأطباق لاقطة يكسب يومياً ما بين 300 إلى 500 ريال، هذا يعني معدل دخله الشهري ما بين 9 إلى 15 ألف ريال، وهذا أفضل بكثير من موظف جامعي بالكاد يحصل على 4500 ريال شاملاً المواصلات والسكن، أما عامل السباكة فدخله اليومي لا يزيد على 400 ريال، وفي مجال ميكانيكا السيارات والكهرباء والسباكة والنجارة وغيرها من المهن فيها دخل عالٍ ومرتفع، والمؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني لا يمكن أن تلعب دور جهتين، تُدرب وتُؤهل، وأيضاً تبحث لهم عن عمل، فالأمر يحتاج إلى توعية المجتمع والشباب واختطافهم وإغرائهم بعد انتهاء مرحلة المتوسطة إلى سوق العمل المهني، ومؤتمر وحدث سنوي يروج ويعالج مشكلات سوق العمل المهني وحاجات السوق، وأيضاً ضبط سوق العمل المهني وتنقيتها من أصحاب العمل الرديء والمنتسبين إليها فقط لاستغلال الناس واستنزاف جيوبهم، وليس تقديم خدمة مهنية، مثلما هناك هيئة للمهندسين وأخرى للأطباء، على المؤسسة العامة لا بد أن تنشئ هيئة للمهنيين والحرفيين السعوديين، تكون مرجعاً مهماًَ لأي عامل مهما كانت جنسيته أن يحصل على ترخيص لممارسة المهنة. المرحلة المقبلة السعودية بحاجة إلى دعم تشجيع الشباب السعودي للإقبال على سوق الأعمال المهنية والحرفية وتنظيم هذا العمل، وليس عصيباً أن يتم إنشاء أو استحداث وزارة للمهن والحرف مثلما هناك وزارة للعمل ووزارة الخدمة المدنية، فالحاجات المستقبلية تتطلب سن تشريعات وأنظمة وقوانين لفتح آفاق العمل المهني والتقني، وسد الفجوة الموجودة بين عمل المواطنين والوافدين، والحل الوحيد لتقليص البطالة وخلق فرص عمل هي دفع الشباب نحو العمل المهني. * كاتب وصحافي اقتصادي. [email protected]