أطل علينا فيلم «عين شمس» إخراج إبراهيم البطوط من جديد في عرض ثقافي خاص شهده لفيف من النقاد والصحافيين في مركز الثقافة السينمائية في القاهرة. أدهش الفيلم الحاضرين.وكان سبق عرضه أمام الجمهور أول الموسم الصيفي الأخير، وفات كثراً مشاهدته. عجبنا كيف يمر هذا الفيلم من دون أن يلقى ما يستحقه من إشادة وتقدير. وعندما تكلم المخرج عن العملية الإنتاجية للفيلم التي أخذت مساراً خاصاً، إزداد الإعجاب بالفيلم ومخرجه. وبدا هذا الفيلم نموذجاً نادراً للإبداع في السينما المصرية. أراد المخرج أن يتحرر من سطوة رأس المال حتى لا يخضع لشروط الممول. قرر البطوط أن ينتج الفيلم بموازنة محدودة جداً لا تتجاوز بضع عشرات من آلاف الجنيهات، في الوقت الذي نعرف أن موازنة الفيلم المصري الآن لا تقل عن ملايين عدة من الجنيهات وتصل إلى العشرات منها. اراد البطوط أن يتحرر من تكاليف وشروط النجم السينمائي التي أصبحت قيوداً مرهقة على كاهل المنتج والمخرج الفنان، فاعتمد في الأدوار الرئيسية على ممثلين ذوي كفاءة عالية وإن كانوا من غير النجوم، واستعان في أداء أدوار بعض الشخصيات بشخصيات عادية التقطها من بين من كانوا يحيطون به أثناء إعداده الفيلم. ومن الشخصيات التي ظهرت في الفيلم ثمة من ليس له علاقة بالتمثيل البتة، ولكن البطوط عرف كيف يوجهها أو كيف يوظفها. وزيادة على ذلك، في إطار التحرر من القيود التقليدية، لم يلجأ المخرج الى كتابة سيناريو محكم قابل للتنفيذ الدقيق، وإنما اعتمد على ذاكرته في تصور واضح للسيناريو وتحديد الهدف من كل مشهد. وراح يصور المشهد بعد الأخر بعد أن أعده جيداً مع العاملين معه. ولم يمنع ذلك من تصوير بعض المشاهد التي تصادفه ارتجالاً ويرى فيها ما يدخل ضمن أفكاره التي أعدها. وبالطبع احتل الارتجال في أداء الممثل والتنفيذ بعامة مساحة غير ضئيلة. وإزاء هذه الحرية التي منحها البطوط لنفسه يستطيع أي مشاهد خبير أن يدرك بوضوح مدى ما يتمتع به سرد الفيلم من حرية وتلقائية غير معهودتين في التعبير السينمائي المصري ما يثير الدهشة. «يا عزيز عيني» مع عناوين النهاية نسمع هذه الأغنية الأسيانة التي بها يصل فيلم «عين شمس» إلى ذروته. «يا عزيز عيني وأنا بدي اروح بلدي ليلة نمت فيها وصحيت ملقيتش بلدي بلدي يا بلدي ويا عيني على بلدي بين أهلي وناسي وبقيت غريب يا بلدي بلدي يا بلدي وانا نفسي أروح بلدي عم يا اللي ماشي ظلم ما ترضاشي سافر قلبي ومجاشي، يدور على بلدي بلدي يا بلدي وانا نفسي أروح بلدي دا مش لون عنيكي ولا دي هي أديكي بدل ما اخاف عليكي با خاف منك يا بلدي» هذه الأغنية إذ تحرض المشاهد بقوة على رفض هذا الواقع المؤلم، وتدفعه الى العمل على تغييره، لا يتأتى لها هذا التأثير بفضل كلماتها الصريحة الحادة فقط، أو بفضل لحنها المأخوذ بتصرف عن لحن سيد درويش المعروف «يا عزيز عيني»، وإنما يرجع الجزء الأكبر من تأثيرها أساساً الى عملية الشحن المتواصلة طوال الفيلم منذ بدايته. في بداية الفيلم نستمع الى أغنية عراقية تغنيها مريم المغنية لمجموعة من المنصتين لها في صمت داخل قاعة صغيرة. حركة الكاميرا البطيئة وهي تتصفح وجوه الحاضرين في الصالة تؤكد ما تحمله الأغنية من شجن. وتنقل إلينا مشاعر أصحاب هذه الوجوه الذين تعبر ملامحهم عن الأسى المكتوم في وجوم. لحن الأغنية فيه من الأسى والشجن ما يكفي لإدراك كلماتها وفهم ما تعنيه، رغم أنها بلهجة عامية عراقية «غامضة» لا يعرفها غير أصحابها. وتمهد هذه الأغنية الى انتقالنا إلى العراق مع الدكتورة مريم، صاحبة أحد الوجوه المنصتة إلى الأغنية. ذهبت مريم (حنان يوسف) إلى العراق لتجري بحثاً عن العلاقة بين اليورانيوم المخصب ومرض السرطان. وكان الأميركان قد ضربوا به دبابات الجيش العراقي أثناء انسحابه في حرب الخليج الثانية 1991. وهنا نرى بقايا الدبابات التي أذاب اليورانيوم دروعها الحديدية. ومشاهد أخرى تكشف عن بعض ما جرى في العراق وما يعانيه العراقيون حتى الآن. التسجيلي والتمثيلي يتنقل الفيلم بين ما هو تسجيلي وما هو تمثيلي بنعومة شديدة ويمزج بينهما ليصبحا وحدة واحدة. يساعده على ذلك الصوت الآتي من خارج الكادر (وهو صوت المخرج) يعلق على ما نراه في الصورة، أو يقدم الشخصيات، أو يحكي عنها ما يكثف حصيلتنا المعرفية بها، ويختزل الزمن. هنا لكل شخصية حكايتها التي تبدو مستقلة عن الأخرى، ولكلٍ منها دلالتها الخاصة، لكنها تتماسّ مع الشخصيات الأخرى وحكاياتها، لتكوّن معاً وحدة المضمون «التحريضي» المقصود بتشعب أبعاده، شأنها في ذلك شأن أذرع المروحة التي يستقل كل منها عن الآخر لكنها تؤدي معاً وظيفة واحدة، لا توفرها أي ذراع وحدها. ولعل أقرب النماذج الأدبية لهذا الشكل الفني ما نجده في رواية «المرايا» لأديبنا الراحل نجيب محفوظ. ويساعدنا صوت المعلق أو الراوي القادم من خارج الكادر على الانتقال المكاني بسلاسة. فننتقل من مصر إلى العراق ونعود إلى مصر حيث نتعرف على بقية الشخصيات التي تبدأ معرفتنا بها بتقديم الراوي لها. ومن هذه الشخصيات سليم بك (بطرس بطرس غالي) عم الدكتورة مريم الذي تطارده البنوك لاسترداد الدين الذي عليه ويبلغ 80 مليون جنيه. فيهرب إلى بلاد الشمال وهناك يكوّن شركة استثمارية ناجحة. ويذكر الراوي أن سليم بك يفسر «تقدم بلاد الشمال ببرودة الجو، ويرجع تأخرنا الى حرارة الجو وليس للفساد أو سوء الإدارة»! ومن الشخصيات هاني أخو الدكتورة مريم الذي يسخر عمه من أدائه الاقتصادي ولا يتوقع من أدائه السياسي خيراً. ويرشح هاني نفسه نائباً لمجلس الشعب عن دائرة عين شمس رغم أنه ليس من أبنائها. وبعد أن ينجح في الانتخابات تنقطع زيارته للدائرة «لكثرة مشاغله»(!!). ومن الشخصيات «كلبظ» الذي يدير حفلات الأفراح الشعبية، وحفلات الانتخابات، ويملك مزرعة دواجن يطعّمها بحبوب منع الحمل ليزداد وزنها سريعاً، جاهلاً أو متجاهلاً تأثيرها السرطاني على من يتناولها من الناس(!!). وهناك عمرو قريب عم رمضان الذي يربي «غية» حمام كبيرة على السطح، فيما ينتظر عقد عمل ينقله الى الخارج! ويعتبر عم رمضان (رمضان خاطر) الشخصية الرئيسة التي نتعرف من خلالها على بقية الشخصيات وعلى بعض الأحداث، وهو يعمل سائقاً لسيارة سليم بك في أول النهار وعلى التاكسي الخاص به في أخر النهار. وعم رمضان هو والد الطفلة شمس (حنان عادل) التي لا يزيد عمرها عن عشر سنوات إلا قليلاً. هي زهرة الفيلم وقلبه. تدخل قلب المشاهد ببريق الذكاء في عينيها، وبسمتها البريئة، وبشرتها السمراء المغسولة بمياه النيل، وتصرفاتها الطفولية التلقائية. انها تدخل قلوبنا منذ نراها تختلس النظر إلى مدرستها مع خطيبها في لحظة حميمة وهما يشتريان أكياس العيش على رصيف الشارع، وفي طريقها إلى المدرسة تلقي بشيء إلى السيدة العجوز التي تجلس مجهدة في شرفتها بالدور الأول. ثم تبدأ ذروة الفيلم المأسوية عندما تكتشف الدكتورة مريم إصابة شمس بالسرطان. وفي النهاية قبل أن تموت شمس يعمل أبوها على تحقيق أمنيتها بزيارة وسط البلد. ابتسامتها البريئة وهي تبحلق في الطريق من خلف نافذة التاكسي، تقابلها ملامح الوجوم على وجهي الأم والدكتورة مريم الجالستين في التاكسي على الأريكة الخلفية، ما يضاعف تأثير إحساس المشاهد بالأسى. والذي يحدث هنا هو ان شمس تكتشف أن وسط البلد كما ارتسم في خيالها قبل أن تراه كان أجمل من الحقيقة. كانت تخيلته في موضوع التعبير المدرسي الذى كتبته مليئاً بألعاب الأطفال والآيس كريم الذي يوزع مجاناً! وتموت شمس من دون أن نراها في لحظاتها الأخيرة، ومن دون أن يقترب الفيلم من أي مشهد ميلودرامي لتصل النهاية بمشاهدها إلى ذروة من الحزن النبيل على فقدان هذه الزهرة. ويصبح لأغنية النهاية مبررها. «بلدي يا بلدي... دا مش لون عنيكي ولا دي هي أديكي بدل ما اخاف عليكي با خاف منك يا بلدي». على الهامش مهما يكن يبقى بعض الملاحظات على هامش الكتابة عن الفيلم تجدر الإشارة إليها، وفي مقدمها اعتماد الفيلم على الراوي اعتماداً أساسياً. وهي وسيلة أدبية أكثر منها سينمائية، لكنها تبدو هنا ضرورة إذ تتفق مع أسلوب الفيلم الذي يجمع بين التسجيلي والروائي. وربما كانت وسيلة ضرورية أيضاً لإعفاء غير الممثلين من التورط في إلقاء حوارات لا يجيدون أداءها على الوجه المطلوب، ومن ثم اكتفى المخرج في مشاهد غير قليلة بالأداء الحركي لهذه الشخصيات يصاحبها التعليق، ما حافظ على صدقية المشهد وعدم الوقوع في الافتعال. ولا شك في أن المخرج استفاد كثيراً من خبرته الطويلة في تصوير الشرائط التسجيلية. فاستطاع أن يصور معظم مشاهده خارج ديكورات البلاتوه. وبالتالي جرت أكثر الأحداث في الخارج أو داخل أماكن طبيعية ما ساعد على تأكيد صدقية ما يدور فيها من أحداث سواء كانت تمثيلية، أو تسجيلية تصور وقائع حقيقية. ومنها المشهد الباهر الذى يصور التظاهرات الصاخبة في لقطات عامة جداً من أعلى تكشف عن موجات التظاهرة الهادرة في صدامها مع موجات العسكر المضادة، ولقطات أخرى من أسفل تكشف عن بعض التفاصيل. من اللافت هنا ان الفيلم يصر على تجهيل هدف التظاهرة لتصبح رمزاً عاماً للاحتجاج. حتى اللافتة المرفوعة تظهر كتابتها في لقطة سريعة من الظهر معكوسة لا تقبل القراءة. وعلى رغم أن كل من أدى دوره في الفيلم من الممثلين المحترفين أو غيرهم كان يبدو تلقائياً ومقنعاً، إلا أن أداء رمضان خاطر، في دور رمضان، كان قمة في التعبير عن الإنسان البسيط الذي ينوء بعبء الحياة على كتفيه رغم ابتسامته الراضية، ثم تدهمه مصيبة الموت الذي يحيق بابنته فيبدو في حركته المتراخية وملامحه المهدلة وملابسه المترهلة «دون مبالغة» نموذجاً لهذا الشخص المأزوم. وهو يصل إلى ذروته (في الأداء الحركي والإلقاء) حين يلقي كلمته المتسائلة عن المصير المهدد بالأخطار في حفل ترشيح هاني. وتأتي كلماته في لغة عامية بسيطة لكن عميقة من دون افتعال. ومن أبرز مشاهد الفيلم المؤثرة مشهد الأم مع طفلتها شمس تتمددان على السرير قبل النوم في لقطة متوسطة وعينا كل منهما في عيني الأخرى. فيما الأم تحكي لطفلتها عن معاناة العائلة المقدسة عند هروبها من فلسطين إلى مصر فراراً من بطش الإمبراطور الروماني. وطوال فترة الحكي تختلط مشاعر الأسى في عيني الأم على طفلتها بمشاعر الأسى عما عانته العائلة المقدسة. وتتابع شمس ببريق عينيها ما تحكيه الأم باهتمام. الأمر الذي ينقل بدوره مشاعر الأسى إلى المشاهد.