في مقال كتبه نيكولاس كريستوف، الحائز على جائزة بوليتزر، الناشط في قضية دارفور ونشرته ال «نيو يورك ريفيو أوف بوكس» New York Review of Books لاحظ أن الوهن أرخى بثقله على زخم التعاطف الذي استقطبته القضية، مشيراً في الوقت ذاته الى فتور الحماس وانحسار الاندفاع في حركة «إنقاذ دارفور».والحقيقة اننا لو حللنا عن كثب تواتر ذكر «دارفور» في الإعلام خلال الأشهر الماضية لتبيّن أنه محق في قوله. فما إن هدأت الزوبعة الإعلامية التي أثارها تقديم طلب إصدار قرار الاتهام في حق الرئيس عمر البشير في أواخر أيلول (سبتمبر) عام 2008، حتى تهاوت نسبة التطرق الى موضوع دارفور، ولم يسبق في أي وقت مضى أن وصلت نسبتها الى ذلك الدرك من التدني الذي انتهت اليه خلال النصف الثاني من عام 2008. مرة واحدة فقط سجل مؤشر التغطية فيها ارتفاعاً حاداً، وكانت خلال شهر آذار (مارس) عام 2009 لدى صدور قرار الاتهام. وسرعان ما عاد التباطؤ اللافت في تواتر الأخبار حول القضية خلال الأشهر التي تلت صدور القرار، وكأن نضوب الدم المراق في دارفور أدى الى انحسار الاهتمام الإعلامي بها. لكن هل يعد هذا مؤشراً إلى فتور الاندفاع في حركة «أنقاذ دارفور»؟ لا بد لأي إجابة على هذا السؤال أن تأخذ في حسبانها الحصيلة التي كان من المعقول توقعها والتي كانت تتوخاها الحركة لدى ولادتها. ويمكن تقويم النشاطات الأخرى التي دعت اليها الحركة ك «الضغط على ممثلي الجماهير في الكونغرس» و «توعية الآخر» و «تنظيم الفاعليات المحلية» في مجال آخر. قد يكون نجم دارفور في الأخبار قد خبا. غير أن شحة تواتر ذكرها في الصحافة قد لا تشكل بالضرورة حدثاً استثنائناً جديراً بالملاحظة. ويمكن أن تعزى أسبابها الى دورات المد والجزر العادية التي تحيق بالاهتمام الذي يستقطبه الخبر، وقد يفسر هذا أيضاً على أساس فتور تعاطف الجماهير عادة تجاه الأزمات التي يطول أمدها. ولا يوجد تفسير محدد لتعليل ظاهرة الفتور هذه إذ تبقى شكلاً من أشكال «الاعياء» الذي كثيراً ما يصيب الاهتمام بجميع القضايا الأخبارية ان طالت. فإذا أخذنا من القضية الفلسطينية مثلاً - وهي قضية العصر بامتياز إذ تستحوذ على اهتمام الجماهير وتتميز بقاعدة دفاعية هائلة - نرى أنه فيما احتلت أخبار عملية «الرصاص المصقول» الصفحات الأولى من الأخبار، بالكاد يذكر الحصار الذي يستنزف غزة قطرة اثر أخرى. ببساطة يمكن القول إن العالم يعاني من كّم كبير من الأزمات والقضايا المستعصية الى حد تمل معه الجماهير تكرارها. فقد نفد، منذ زمن، المخزون الإعلامي من تعابير البلاغة اللفظية التي تسخّر لخطف انتباه الجماهير وإثارة شهيتها لمتابعة الخبر. كما لا بد من ملاحظة عامل آخر يفرض نفسه في القواعد الإعلامية، وهو أن شهية الجماهير هذه لا تحتمل أكثر من أزمة واحدة في وقت واحد، الأمر الذي يفرض على الجهة الإعلامية فرزاً انتقائياً لدى نقل ما تود نشره من الأخبار. غني عن البيان أنه لا بد من أن يحاول الناشطون والمؤازرون وضع أخبار الأزمة التي يناصرونها في أعلى أولويات التغطية كي تستقطب الاهتمام المنشود بها. إلا أنه لا يمكن في أي حال من الأحوال التكهن أو محاسبة محرري الأخبار في اتجاهات خياراتهم لما يرون نشره أو إبرازه من أخبار. إضافة الى ما سبق، يلاحظ أن قناعة الإعلام بأهمية واقعة مستمرة تزداد مع اهتمام الجهات الرسمية بها. ففي وقت أعلنت الولاياتالمتحدة قضية «التطهير العرقي» عام 2004 – ولو أنها لم تبد قناعة قاطعة بها اذ لم يتبع الإعلان تحرك لافت يترجم أهمية الحدث على الأرض – طغى الاهتمام الرسمي بقضية العراق على قضية «التطهير العرقي» في دارفور، وانسحب ذلك على الإعلام أيضاً. واليوم إذ توحي العبارات الصادرة عن جهات رسمية أميركية ك «بقايا تطهير عرقي» بأن الحالة السائدة الآن لا تعدو كونها آثار حدث انحسر مخلفاً مجرد ذيول قصة أخبارية ليس إلا، في ظل تغييب الاهتمام الذي تمارسه الحكومات الأجنبية المتدخلة لحل الصراع والذي انسحب بالتالي على الإعلام، نشأت ظاهرة موازية جديرة بالاهتمام. فقد اتخذ بعض المشاهير على عاتقهم أن يجعلوا من أنفسهم «شهوداً على الكارثة» في التفاف غير معتاد على مهمات مراسلي الأخبار الخارجية إذ كان هؤلاء في ما سبق هم من يقف أمام مشاهد الدمار ويطلق شهاداته ليتلقفها العالم بأسره. وفي سياق الاتجاه المتزايد نحو إضفاء الضبابية وتخفيف وطأة أخبار الصراع والتعتيم عليه، لا بد من أن نسلم بأن انخراط هذا العدد الكبير من المشاهير في شؤون دارفور كان العامل الأكبر وراء استمرار التطرق اليها في الساحة الإعلامية. إلا أن ما تجدر ملاحظته هو حجم الحركة الدفاعية غير المسبوقة التي جهدت لابقاء القضية في أعلى درجات الأولويات الممكنة من الأجندة. ويتساءل كريستوف متأملاً: «هل ضلّت حركة دارفور طريقها؟ وهل تعي هذه الحركة ما تفعله؟». قد يعتبر البعض هذا التساؤل اعترافاً بالعجز، كما يمكن تفسيره في شكل مواز على أنه نداء أُطلق بهدف حضّ الحركة على توضيح أهدافها وعلى الاعتراف بمحدودية إمكاناتها. وفي المجال الإعلامي، هناك صعوبة متأصلة تلازم استقطاب الاهتمام لفترة زمنية طويلة خاصة حيثما يبدو أن لا تغيير في الوقائع. طبعاً في حالة دارفور، تتوالى المتغيرات ولكن ديناميكية هذا الصراع لا تنعكس بمجملها على تغطيته الإعلامية. ومع أن الاهتمام بقرار محكمة الجزاء الدولية أدى الى صدور بيانات صحافية منتظمة وتغطية واسعة للمؤتمرات الصحافية التي عقدت في لاهاي، إلا أنها لم تول دارفور اهتماماً كافياً. وتعكس هذه الساحة عموماً تناقضاً بين العنوان العريض المعتاد الذي يؤكد «التطهير العرقي القائم» وبين تسليم «حركة إنقاذ دارفور» بأن الصراع «غاية في التعقيد وكثير المتغيرات» «ويشكل هذان العاملان معاً ما يوصف بأنه «اللعنة» التي تلازم التغطية الإعلامية. فقرار محكمة الجزاء الدولية في حق البشير الصادر في آذار (مارس) 2009 - والذي هللت له حركة «إنقاذ دارفور» وغطته الوسائل الاعلامية في شكل موسع - أسقط كلياً تهمة «التطهير العرقي» فخلق تنافراً إضافياً ما بين المقدمات والنتائج في مفهوم المحررين للصراع القائم ولا يمكن في أي حال من الأحوال أن نتوقع أن يكون كل من كتب عن قضية دارفور خبيراً في شؤونها. وحتى قبل أن يبدو هذا التناقض جلياً، دل تباعد الآراء حول أعداد القتلى على افتقار هذه القضية الى الترابط المنطقي تستدعيه قصص الأخبار الرئيسية. فلو كان هناك موقف موحد متماسك حول ما جرى على منوال الموقف الموحد الذي تبناه المراقبون والمدافعون في قضايا المجاعات مثلاً، لما بدت هذه التصدعات التي أصابت القضية بهذا الوضوح وهذه الخطورة ما أدى – بالاشتراك مع عناصر أخرى – الى هذه الصحوة الخجولة التي استدعت استنباطاً سطحياً للدوافع والمشاعر التي تحفز التصدي لقضية ما. وعلى رغم أن الشعارات العريضة التي تبنتها حركة «إنقاذ دارفور» ك «التطهير العرقي» و «الشر» الخ، استقطبت ذلك الاهتمام الكبير الذي توخته الحركة من الإعلام، بقيت هذه العبارات شكلية وتبسيطية. وبدت عوامل اللعب على الأوتار الأخلاقية واضحة في مقولة الممثل المشهور جورج كلوني: «في النهاية وبكل بساطة ينتهي الأمر الى تصنيفه إما في خانة الصواب أو في خانة الخطأ». كما بدت أيضاً في التناظر التاريخي ما بين رواندا ودارفور إذ تضافر ذكرهما معاً في كل مقال من أصل خمسة مقالات كتبت خلال عامي 2004 و2005 على رغم أن أحدها لا يفسر الآخر. ملاحظة أخيرة لا بد منها وهي أن ما يولّد ويفعّل الاهتمام الإعلامي هو أسلوب الطرح: إذا أسهمت «في إثارة اهتمام الإعلام بأزمة ما إذن ستساعد في بناء القوة السياسية اللازمة لانهاء هذا الصراع». قد يبدو هذا الطرح جائراً في حق الناشطين، في ضوء انخفاض وتيرة التغطية أخيراً. إذ يلقي باللوم عليهم بدعوى أنهم قصروا في بذل الجهد الكافي لبناء الزخم السياسي اللازم لإنهاء الصراع جوهرياً، وفرت حركة «إنقاذ دارفور» لنفسها طوق نجاة للخروج من هذا المأزق بالدعوة الى اعتماد التشجيع والمضي الى الأمام قدماً، بزيادة حجم العمل من أجل توليد التغطية الإعلامية اللازمة. ومع ذلك، يبدو أجوف وقع الشعارات التي تتبناها الحركة ك «الاستجابة العارمة» و «النشاط الملهم» و «الحق يخاطب القوة» إذ تبقى شعارات فضفاضة في مقابل عنصر أكثر تحديداً، وهو استعطاف اهتمام الإعلام لتوليد تغطية أكبر وهو عنصر صعب المنال في حد ذاته إلا أنه يصبح أكثر استعصاءً بعدما وضع الاعياء الإعلامي مراسيه. في الحقل الإعلامي يصعب جداً التصدي لخطر فتور الاهتمام، وأرخى هذا الفتور بثقله على الساحة حتى قبل أن تبدأ المحاسبة الذاتية التي بادر اليها كريستوف بقوله: «فشلنا في بناء الإرادة السياسية التي تستطيع فرض المتغيرات». * باحث في مؤسسة الراصد الاعلامي - لندن