شكلت العقوبات النفطية، الغربية والأممية، ركناً أساسياً من أركان سياسات الدول الكبرى لمعاقبة دول الشرق الأوسط في العقود الثلاثة الأخيرة. وبادرت الدول الأوروبية والولايات المتحدة إلى فرض عقوبات خاصة بها، عند عجزها عن الحصول على إجماع في مجلس الأمن على عقوبات، كما هي الحال مع العقوبات ضد سورية. تطرح هذه العقوبات أسئلة مهمة هي: من يعاقَب أكثر؟ هل هم الحكام الذين لهم أرصدة بالملايين بل البلايين من الدولارات في الخارج (في مصارف الدول التي فرضت العقوبات)، أم هو الشعب المسكين الذي يعيش في ظل حكومات شمولية وديكتاتورية ويعتمد على مؤسسات الدولة في الحصول على أساسيات الحياة (كهرباء ومياه شرب ووقود) التي تتعطل بسبب العقوبات، أم هي الصناعة البترولية التي استثمرَت البلايين من الدولارات في تشييدها؟ ثم ماذا حققت هذه العقوبات؟ هل استطاعت القضاء على نظام أو حاكم؟ الإجابة هي لا. هي تقوّض نظام الحكم وتهيئ الأجواء للقضاء عليه، أو تساعد في تقسيم البلاد من خلال إيجاد ثغرات مناسبة لمساندة طرف دون آخر. والأهم ان العقوبات النفطية على العديد من دول المنطقة فتحت المجال لبروز مافيات محلية ودولية تستفيد من الوضع الاستثنائي. وهذه المافيات متنوعة، فمنها من ينتهز فرصة اضطرار الدولة المنتجة إلى طرق أبواب أسواق جديدة، فتعمل هذه المافيات لشراء النفط بحسوم عالية جداً، ما يعني خسارة كبرى للدولة المنتجة وربحاً عالياً جداً للمافيات التي تتكون عادة من سياسيين مفترض ان تستهدفهم العقوبات وسياسيين من دول معارضة للعقوبات تستورد النفط المحظور، فيما يعمل وسطاء السوق لصالح الطرفين. وهناك أمثلة كثيرة عن هذه الحالات في ليبيا والعراق وإيران. لماذا الكلام عن العقوبات النفطية الآن؟ هناك عقوبات على إيران (بسبب الملف النووي) وعلى سورية (بسبب الحرب الأهلية). وهناك تحديداً مبادرة وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي إلى رفع الحظر عن تصدير النفط من الحقول السورية التي تسيطر عليها المعارضة من أجل استعمال هذه الأموال للمساعدات الإنسانية. ان قرار رفع الحظر هذا غريب جداً، فهو إما مبني على جهل بالحقائق، أو ان الغرض منه هو إيجاد حقائق جديدة على الأرض. فالقرار الذي وافق عليه وزراء من 27 دولة ينص على رفع حظر تصدير النفط من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة من أجل المساعدة في تخفيف معاناة المدنيين، ويشمل استيراد النفط السوري ومشتقاته وتزويد قطاع النفط السوري بالتقنيات والمعدات، والسماح بالاستثمارات الأجنبية في الحقول التي تسيطر عليها المعارضة. هذه هي المرة الأولى التي تُرفع فيها العقوبات النفطية عن بلد ما مع الاعتراف ضمناً بملكية الحقول لثوار متعددي الهوية بدلاً من السلطة الشرعية. وإذا افترضنا ان الغرض هو دعم الثوار، ولا بد ان هذا هو هدف الاتحاد الأوروبي، فالمشكلة تتلخص بالسؤال التالي: من هو الطرف الذي سيتعامل معه الأوروبيون، فالسيطرة على الحقول في المناطق الشرقية من سورية موزعة بين الأحزاب الكردية (تسيطر على حقل الرميلان) والجيش السوري الحر (يسيطر على الحقول الواقعة بين شرقي الميادين والبوكمال) و»جبهة النصرة» وحلفائها من الجماعات الإسلامية (تسيطر على الحقول بين غربي الميادين والرقة)، والعشائر والأهالي (يسيطرون على حقول أخرى). طبعاً هناك أسئلة أخرى تطرح نفسها هنا: كيف سيُجمَع النفط من الحقول المتفرقة؟ فهل في استطاعة قوات المعارضة جمع مئات الآلاف من البراميل يومياً وتصديرها؟ وكيف سيجري التصدير؟ فأنابيب التصدير السورية تتجه غرباً إلى الساحل وهذه منطقة تسيطر عليها القوات الحكومية؟ هناك خيار آخر وهو التصدير عبر قوافل من الصهاريج إلى إحدى المصافي التركية، لكن من المحتمل جداً ان تقصف مقاتلات الحكومة هذه القوافل، ما سيخلّف عشرات الضحايا وكوارث بيئية. وما هي المصفاة التي ستعتمد على إمدادات غير معروفة نوعية نفوطها بالضبط أو الكميات والأوقات التي ستتزود بها بالنفط؟ يتعلق الأمر بمصفاة «باتمان توبراس» التركية. وهناك أيضاً أسئلة أخرى محيرة لا تجد إجابة، فمراجعة لما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي مثل «يوتيوب» من دير الزور تشير إلى الوسائل البدائية التي ينتَج فيها النفط وحرائق مندلعة من الآبار، إضافة إلى حرائق ناتجة عن تفجير الأنابيب وسرقة النفط منها. وتشير المعلومات المتوافرة إلى صراع مهم يدور بين الجماعات المسلحة للسيطرة على الحقول، ومشاركة مجموعات من المرتزقة. والهدف هو تجميع كميات قليلة من النفط وتوزيعها على الأهالي المحليين لسد حاجاتهم في توليد الكهرباء والتدفئة. وثمة خوف من ان يزيد القرار الأوروبي حدة الخلافات بين المليشيات وحتى العصابات لوضع اليد على الآبار والبدء بالتصدير. ويقدر مراقبون ان في استطاعة قوات المعارضة في حال توافرت عمليات منظمة، إنتاج نحو 100 ألف برميل يومياً، وتصدير نحو 30 ألف برميل يومياً، بسعر 80 دولاراً للبرميل، أي أقل بنحو 20 دولاراً أقل من الأسعار العالمية. ويعني هذا كسب 60 إلى 70 مليون دولار شهرياً، أو أكثر من مليوني دولار يومياً. ويضيف المراقبون ان الثوار ينتجون نحو 30 ألف برميل يومياَ ويبيعونها محلياَ بأسعار تراوح بين سبعة و30 دولاراً للبرميل، مما يحقق إيرادات شهرية تفوق 20 مليون دولار. لكن مع من سيجري التعامل؟ وهل ستسلم مجموعات مسلحة أموالها إلى المؤسسات الإنسانية؟ تدل تجارب الحروب الداخلية في كل من لبنان والعراق في شكل واضح على ان المسؤولين عن الجماعات المسلحة يحرصون على الاستفادة القصوى من أي أموال يمكن ان يضعوا أيديهم عليها، ولا مبالغة في استبعاد قبول المليشيات والمرتزقة الذين يحومون حولها، التحول إلى «الأم تيريزا» بين ليلة وضحاها. وماذا عن «جبهة النصرة» التي اعترفت علناً بانتمائها للقاعدة؟ هل الدول الأوروبية مستعدة للتغاضي عن تمولها بملايين الدولارات النفطية؟ وثمة سؤال أخير: هل تمثّل طريقة رفع العقوبات النفطية عن سورية محاولة من الدول الأوروبية المثقلة بالأزمات المالية تفادي مسؤولياتها تجاه الأزمة الإنسانية السورية؟ إنها بذلك تستعين ببديل مفعم بالمشاكل والعقبات. * مستشار لدى نشرة «ميس» النفطية