يوم اندلعت المظاهرات السلمية في سورية تطالب بالحرية منطلقاً إلى استعادة حقوق الناس المسحوقين، جوبهت فوراً لا بالرصاص الحي فحسب، بل بهجوم مضاد إعلامي عنيف، يتهم الثورة بأنها مؤامرة كونية لم تنعقد خيوطها إلا لسبب وحيد هو كون سورية الأسد لا سورية الشعب قلعة الممانعة ضد إسرائيل ومن لف لفها، مع ما في ذلك من خلل في حسابات النظام. رفع النظام الحاكم ممانعته الفريدة في بابها، في وجه كل مطالب بأبسط حقوقه وكل من يعترض على سلوكه، واضعاً الناس جميعاً في البوتقة الإسرائيلية. لست الآن بصدد إيضاح أساليب ممانعة النظام، فهذا موضوع مستقل، أريد التركيز على فساد تفكير الإعلام الذي اختصر الأسباب التي تدفع المحكومين إلى الثورة في شعار وحيد وهو ضلوعهم في المؤامرة المضادة للممانعة. علمونا في المدارس أن ثورات كثيرة اندلعت بسبب الضرائب، حتى أن ثورة عنيفة شهدتها مقاطعة فرنسية، على ما أذكر، كان سببها زيادة الضريبة على الملح لا أكثر ولا أقل، ومن يعرف فوضى الضرائب في سورية لا نظامها يستغرب كيف لم تندلع كل سنة ثورة منذ انقلاب تشرين الثاني (نوفمير) 1970. كما قرأنا عن ثورات أعلنها مواطنون في دول شتى من أجل المطالبة بحق تشكيل نقابات أو أحزاب أو للمطالبة بحرية الكلام فحسب. ونعرف كم ثورة اندلعت وواكبها اضطرابات عنيفة للمطالبة بحق الاقتراع، أو للاحتجاج على تزوير الانتخابات، وهناك من الأسباب الأكثر أهمية ما لا سبيل إلى حصره، بدءاً من احتجاج الناس على مناهج التعليم، ومروراً بفساد النظام الصحي، وانتهاءً بهزائم الأنظمة الحاكمة عسكرياً أمام الأعداء. مادامت عجلة الإصلاحات الجادة تدور منذ سنوات، فلماذا لم يبادر من ورثّوه البلاد إلى إدخال إصلاحات جذرية على نظام الضرائب؟ وربما ما كان يعرف بوجود ضرائب في دولة الممانعة تكلف إجراءات جبايتها أكثر بكثير من حصيلتها، كما يقول ماليون معروفون، ولعله لم يبادر إلى إصلاح الضرائب خوفاً على الممانعة من الاختناق. هل هناك ضرورة للحديث عن الأمور الأخرى التي ينبغي للناس الثورة ضد استمرارها؟ مثل تثبيت الأجور وإطلاق الأسعار، وتردي النظام الصحي، وحال المدارس والجامعات، وحرية الكلام وتشكيل الأحزاب... من دون التوقف عند انتصارات النظام في حزيران (يونيو) ،1967 وفي تشرين الأول (أكتوبر) 1973، وفي حزيران 1982، لأنها ليست ذات أهمية كي ما تستدعي حدوث ثورات. لست أدري ما إذا كان قادة النظام العسكريتاري لاحظوا كيف أن المقاومة المسلحة ضد إسرائيل، التي أعطت تلك الانتصارات، كيف تحولت إلى «صمود وتصدي»، ثم إلى «جبهة رفض» وبعدئذ إلى «ممانعة» هي إلى المماتعة أقرب... هذا الشأن الذي يستحق وضع كتاب كامل عنه من أجل فهم «طقوس الإشارات والتحولات» التي مر بها، ولكن من أين تأتي بسعد الله ونوس جديداً؟ لئن كان موقف السلطة من مطالب الناس الفقراء خصوصاً، له مسوغاته الفلسفية، بسبب انصرافها إلى تقديم علف الممانعة إلى الشعب القطيع، آناء الليل وأطراف النهار فإنه يبقى من غير المفهوم وغير المسوغ، موقف تنظيمات وفصائل ثورية اكتفت برفع شعارات تحمل أول ركنين من أركان الإسلام على غرار «جبهة النصرة»، على سبيل المثال، التي يقال إنها أكثر قوة وتنظيماً من غيرها، فراياتها السود تسد الأفق وهي تحمل الركنين المشار إليهما، كأنما جماهير الشعب أعلنت ارتدادها عن الإسلام واعتنقت «البوذية» مثلاً. أريد في هذه المناسبة أن أهمس في آذان المنظمات المتدينة التي تعاملنا كمرتدين، ما قرأته بالأمس القريب في رسالة صادرة عن واشنطن كتبها مراسل صحيفة عربية. «كان مسؤول مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأميركية السفير دانيال بنيامين، في خضم لقائه مع نظرائه السوريين في دمشق في شباط (فبراير) 2010، كجزء من سياسة الانخراط مع نظام بشار الأسد، عند دخول ضابط وقف له الحاضرون، هو «اللواء علي المملوك»، تفاصيل اللقاء الذي شهده مدير أمن الدولة في حينه، ظهرت إلى العلن في برقية ديبلوماسية سرية إلى واشنطن، كشف عنها موقع ويكليكس في ما بعد، وورد فيها أن المسؤول السوري قال للأميركي: «إن بلاده كانت دائماً أكثر نجاحاً من الولاياتالمتحدة والدول الأخرى في المنطقة في مكافحة الإرهاب، لأننا لا نهاجمهم ونقتلهم فوراً، بل نخترقهم ولا نتحرك إلا في اللحظة المناسبة». لذلك يجب على الثائر الحذر وافترض أسوأ الاحتمالات، والتحسب لسعي السلطة إلى اختراق قيادات التنظيمات الثائرة أو تزويدها بمقاتلين ذوي ولاء غامض، وها نحن نلمس تكاثر ارتكاب بعض الثائرين أعمالاً لا تخدم إلا مشروع السلطة، كما أن اكتفاء التنظيمات الدينية الثائرة برفع أول أركان الإسلام على راياتها كأنها تبشر به شعوباً لم تعرفه من قبل أبداً، وابتعادها عن رفع شعارات تتضمن مطالب المسحوقين الذين ثاروا لأجلها، أعده سلوكاً يثير المخاوف والشكوك. جعلت السلطة من الممانعة شعاراً مقدساً، جذب مخدوعين كثراً، حتى من خارج سورية، منهم بسام الشكعة، والأب عطاالله حنا من رام الله، ومنهم «فلول أحزاب قومية اشتراكية» نازية في المملكة الأردنية الهاشمية، وهؤلاء لا يفرقون بين جسر الشغور وبين جسر بنات يعقوب، فتستروا بالعباءة الفضفاضة التي حملوها إلى رمز الممانعة ضد إسرائيل، كما جذب الشعار الناصريين المصريين الذين برهنوا مراراً أنهم لم يفهموا حقائق الأمور سابقاً ولا حالياً ولن يفهمومها في المستقبل، ووضعت المنظمات المتدينة، في مواجهة شعار السلطة، شعارها المقدس المنوه به آنفاً. وبين الشعارين «المقدسين» غابت مطالب الناس الفقراء وغير الفقراء، الذين ثاروا للوصول إليها، وهذا ما يحير كل محب للثورة ومؤيد لها، لأنه لا يجد تفسيراً لعزوف هذه المنظمات عن رفع شعارات المسحوقين مادياً ومعنوياً ومن هؤلاء من هو مسلم قبل كثير من التنظيمات المتدينة، لكنهم وجدوا أنفسهم بين نداء «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، الراسخ في ضمائرهم منذ دهر بعيد، وبين سلطة منافقة تصرخ «واممانعتاه» فيغيثها معتصم موسكو ومعتصم واشنطن قبل معتصم الضاحية الجنوبية ومعتصمي بغداد وطهران، ونضرب صفحاً عن معتصم «بتاح تيكفا» الذي لا يحب الظهور. فهل نلوم المسحوقين إذا تمنوا مجرد أمنية مبادرة «من يهمهم الأمر» إلى رفع شعارات ثورية ذات طابع إنساني واجتماعي واقتصادي وثقافي «لم لا... نكاية بمثقفي ما بعد الحداثة على الأقل»... ويستمر بين الشعارين سحق السوريين وحلمهم بالحصول على نظام ضريبي عادل، كأن الله جل جلاله ما أصدر منذ مئات السنين أمراً صريحاً: إن الله يأمر بالعدل. كاتب لبناني