الجسدُ وطنُ الروح، ومقرها إلى أن تغادره. حول هذا المفهوم، تمحورت عروض الدورة الخامسة من مهرجان الرقص المعاصر في عمّان، والذي نظمته مديريةُ الرقص في المركز الوطني للفنون الأدائية، إلى جانب عروض مهرجانين أُقيما في كلّ من بيروتورام الله. تنضوي المهرجانات الثلاثة، ضمن ملتقيات شبكة «مساحات» التي تأسست عام 2006، وضمت تجمع «مقامات» للرقص في لبنان، و «سرية رام الله الأولى» في فلسطين، وكذلك تجمع «تنوين للرقص المسرحي» في دمشق، و «المركز الوطني للثقافة والفنون» في الأردن عام 2008. حمل عرض الافتتاح توقيع مصممة الرقص النروجية هاغينرود، واستهدف في رسائله الأطفال والمراهقين، باستخدام تقنية لغة الرقص والمسرح في آن، إلى جانب الإفادة من تقنية الفيديو في مشاهده الأخيرة، التي يتمرد فيها الأطفال على مدربيهم في تعلم الرقص، في سياق أحداث حكاية الاستعراض، ليصيغوا حركاتهم وفق ما يمليه عليهم خيالهم الفطري الخصب. وبدت لوحاتهم أكثر إيهامية لجهة التواصل، كما في المشهد الذي كانت فيه الراقصتان مقنّعتين، كأنهما تسبحان عكس تيار هوائي جارف، في أداء حضرت فيه عبر صور الفيديو، أشجارُ غابة تنساب بخفة كخلفية لحركة الراقصتين. ثمة لوحات أظهر فيها الجسد الراقص حرفية في تقنياته، لكن المعنى جاء سلبياً من الناحية القيمية، فطُرحت رسائل تحضّ على العنف بما لا يناسب الخطاب الموجه الى عالم الطفولة والمراهقين. وتمثلت مفاجأة المهرجان على صعيد المشاركة الأردنية، في فرقة «غو جو» الهاوية، التي قدّمت ال «هيب هوب» بطريقة لفتَت الأنظار، بفرادتها في تصميم الرقصات. في اللوحات الراقصة التي كان الأداء ينحو فيها، في بعض الأحيان، باتجاه التمارين الرياضية، دانت إشارات لغة الجسد، التسلطَ وكتم الأنفاس، داعيةً الى حرية الجسد الإنساني، كتعبير مجازي عن توق البشر الى نيل حريتهم من براثن السلطات الاجتماعية والسياسية. وطُرحت المعاني والدلالات العميقة عبر حكاية سطحية تحدثت عن إشكالية تسلط «راعٍ» على قطيع من الأغنام. والمفارقة أن الفرقة المؤلفة من فنانين موهوبين (محمد زين، نادر عصام، عمر حسان، محمد شحادة، عدي أبو غنام وعلي القيسي)، تشكلت سريعاً للمشاركة في فعاليات المهرجان، بعدما قدمت فرقة فلسطينية آتية من رام الله اعتذارها عن عدم المشاركة، لإصابة أحد أعضائها، وفق مديرة المهرجان رانيا قمحاوي. وتميَّز عرض «نغمات إضافية»، (تصميم وإخراج كترزينا غدانيك وماركو كانتالوبو)، وقدمه مسرح «أكتون» السويسري، بجماليات توظيف التقنيات الإلكترونية لخدمة الأداء الراقص، فقدم لغة بصرية جميلة، تناغمت فيها حركات الراقصين مع ايقاع الموسيقى. وطاول العرض قضايا بدا الإنسان فيها ضحيةً للنظم السياسية والاجتماعية في الغرب، خصوصاً ما يتعلق بتركيبة المجتمعات الرأسمالية الطبقية؛ وعبّر الأداء الراقص عن استباحة جسد الإنسان الفقير، على يد القوانين العاملة لمصلحة الأثرياء. وشاركت الفرقة السويسرية «ستاد»، التي تضم بيير أوديتات (البيانو الإلكتروني) وكريستوف كاليبني (الطبول الإلكترونية)، واللذين ذهبا في عزفهما نحو الارتجال، وفق جمل لحنية متطورة صاعدة نجحت في تنظيم الإيقاع الراقص وضبطه. أما العرضان الراقصان «النظر الى الوراء» و «ضبط وإعادة ضبط»، لفرقة «كاندوكو» من بريطانيا، فتناولا تجليات الإرادة الإنسانية في قهر الصعاب، عبر الأداء الراقص لشخص مُقْعَد، فعوّض البريطاني ميك روجرز عن ساقيه بتوظيف عربة المُقْعَدين ذات الدولابين، ليكون راقصاً أساسياً في اللوحات التي نظمتها إيقاعات العزف الحي على آلة القيثارة الكلاسيكية. اللوحات التي قدمتها الفرقة ضمت راقصيْن مُقْعَدين وآخرين أصحاء، ولكن ما تواصل معه الجمهور هو نوع من التجسيد الإيهامي لفنانين كأنهم يقدمون شخوصاً ذوي إعاقات حركية، منشئين فضاءات متعددة اعتمدت على إخراج الفعل النفسي والعاطفي بفعل آلام الجسد تارة، وبإضفاء المرح عبر لوحات حضرت في تصميماتها رقصاتُ تريشا براون التي قُدمت عام 1983، مع اعادة توزيع الموسيقى لتناسب أداء الراقصين من ذوي الحاجات الخاصة. المشاركة المحلية مثَّل الأردن في المهرجان عرضٌ مسرحي حمل عنوان «وادي القمر» للينا التل ورانيا قمحاوي (إعداد وإشراف)، بدعم من السفارة النروجية في عمّان. وهدفَ العرض إلى ترويج وادي رم سياحيّاً عبر تركيزه على طيور «القَطا» الصحراوية. تمحور الإخراج الذي أعدّته مسرحياً النروجيتان ماري هافتينج ونانسي مانز، حول دمج جماليات الغرافيكس مع تناولات صور «البروجكتر»، وتوظيفها دلالياً لإنتاج البناء البصري للعرض، خصوصاً في كيفية طرح صور وادي رم، وطيور القَطا، وشجرة الغَضا، التي مهدت لأحداث المسرحية التي هيمن الجانب الاستعراضي فيها على حساب الدرامي. وحكاية العرض مستوحاة من قصة المهرة والربابة، التي تعبّر عن مفاهيم الحب والصداقة والحرية، كما ابتعدت اللوحات الراقصة عن مفهوم الرقص المعاصر، متجهةً نحو تقنيات الموروث الشعبي. واللافت في المهرجان، المشاركة الخجولة من قبل للجمهور، خصوصاً في حفلة الافتتاح، مع غياب بارز للمواطنين والفنانين المحليين في بقية العروض. وتوضح مديرة المهرجان رانيا قمحاوي أن «فنون الرقص المعاصر تعدّ من أنواع الفنون الجديدة في الأردن، والتي تحتاج إلى وقت كي تستقطب الجمهور في شكل أوسع، على رغم أننا نلاحظ حضوراً متزايداً، لتنوع العروض المقدمة من أنحاء العالم».