تنيط «حماس» علاقتها بالسلطة الفلسطينية، والخطوات والاجراءات الآيلة الى توحيد شطري الكيان الوطني الفلسطيني الممزق وهيئاته، تالياً، بمسألة أولى تتصدر المسائل الأخرى هي اطلاق معتقلي الحركة الاسلامية «السياسيين» في سجون سلطة رام الله، على قول الحركة. ومع كل مسألة - من حوار المنظتمين الكبيرتين، «حماس» و «فتح» غداة كارثة غزة، الى الاعداد للانتخابات الرئاسية والتشريعية في أوائل 2010، وبين الحوار والإعداد انعقاد مؤتمر «فتح» السادس وتجديد اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية - اشترطت الحركة الاسلامية الحاكمة في غزة على حكومة السلطة في الضفة الغربية، وعلى «فتح» من ورائها، «تحرير» أسراها من الأسر. وهي تحصيهم ب 700 أسير، وتجمعهم الى أسرى السجون الاسرائيلية ومعتقلي هذه السجون، وفيهم أسرى «فتح» والمنظمات الحليفة أو القريبة. وكان حؤول «حماس» بين مندوبي «فتح» الى المؤتمر العام السادس وبين السفر الى بيت لحم، وتعطيل اقتراع المندوبين في انتخابات المؤتمر الختامية من طريق الهواتف النقالة، اجراء أرادته المنظمة الاسلامية رادعاً في حق «فتح» والسلطة، واقتصاصاً سياسياً من احتفاظ الاثنتين، وهما واحد في نظر الحركة، بمناضليها أو ناشطيها في الأسر السياسي. وترد السلطة غالباً على هذا رداً مرتبكاً. فتنفي عن المعتقلين أو الموقوفين الصفة السياسية والوطنية. وتنسب اليهم، على ترد وتلعثم، أعمالاً جرمية عادية، أو تسوغ اعتقالهم بضبطهم وهم يخططون لاغتيالات على شاكلة خطة اغتيال محمود عباس في كمين نصب غير بعيد من المقاطعة، عشية سلخ «حماس» غزة عن السلطة وانفرادها بحكم القطاع. ونفت المنظمة المتهمة التهمة، ولا تزال على نفيها. ولا يتستر النفي على مطالبة «حماس» لناشطيها ومقاتليها في الضفة الغربية، بصفة سياسية تحملهم على «المقاومة»، قاتلوا ادارات السلطة و «فتح» أم قاتلوا القوات الاسرائيلية المرابطة، منذ 2002 وعملية «السور الواقي» إما داخل المدن والبلدات التي كانت القوات أخلتها أو على حدود المدن والبلدات هذه. ومطالبة «حماس» لناشطيها ومقاتليها، في الضفة الغربية وفي غزة وبإزاء الاحتلال الاسرائيلي والسلطة الوطنية (أو «الاحتلال» الوطني)، على حد سواء، بصفة سياسية تعمهم كلهم، وتعم أعمالهم، هذه المطالبة تترتب على أصل وركن سياسيين جوهريين. فقول «حماس» أن معتقليها في الضفة الغربية هم معتقلون سياسيون يطعن في السلطة الوطنية، وينكر على الرئاسة والحكومة الفلسطينتين برام الله تذرعهما بصلاحياتهما الحكومية (السلطة) وغير الفصائلية (الوطنية) الى تعقب واعتقال من تعتقلهم، ثم الى مقاضاتهم ومعاقبتهم وانفاذ الأحكام فيهم. وتنزع «حماس» عن السلطة سندها القانوني والسياسي، وتحيلها الى أداة متعسفة بيد فصيل «فتح». وتجعل من الاعتقالات رداً ثأرياً أو «أهلياً» على سلطة «حماس» المنتخبة، والفائزة بالأغلبية والحاكمة باسمها. وعلى هذا، فإثبات صفة الحمساويين السياسية ينزع عن معتقِليهم وسجانيهم الصفة هذه، وينسبهم الى فصيل أهلي يناهض المنظمة الاسلامية ومجاهديها وجهادها. وتصيب التهمة من «فتح» وجمهورها، ومن السلطة وأجهزتها الادارية والأمنية ومواطنيها، جرحاً لم يلتئم، وتثير شجوناً ملحة. والبرهان على أثر التهمة بعض مناقشات مؤتمر بيت لحم، وتصدي شطر غير قليل من المؤتمرين لتعريف «فتح» أو تجديد تعريفها ب «حركة تحرير». ويجيز التعريف المتجدد والمستأنف هذا، على ما كرر بعض وجوه المؤتمرين على الشاشات التلفزيونية، بعث «المقاومة المسلحة» شكلاً مشروعاً من «أشكال المقاومة كلها». والذين خلصوا الى النتيجة هذه حمّلوا السياسة الاسرائيلية ومراوغتها وتعنتها، تبعة النتيجة والاضطرار اليها. وذكر بعض آخر، من طرف خفي، بإسهام «فتح» في «المقاومة المسلحة» ومنظماتها الكثيرة، وإعالتها بعض هذه المنظمات والأجنحة. ووسع زكريا الزبيدي، أحد المطلوبين البارزين وأحد وجوه جيل «فتح» الجديد، القول أمام العدسات أنه «مشروع شهادة» قبل أن يكون قيادياً شاباً تعول عليه «فتح» في مداواة الأفول والهرم والقعود. وأخيراً، انتخب المؤتمرون الى اللجنة المركزية بأصوات فاق عددها عدد الأصوات التي حازها الأعضاء ال 17 الآخرون، المسؤول التنظيمي، أبو ماهر غنيم. وعميد اللجنة المركزية الجديد هو من معارضي اتفاق أوسلو، ركن السلطة الوطنية والذاتية الفلسطينية. وأخرج المؤتمرون من اللجنة المركزية العتيدة مفاوض اتفاق أوسلو الأول، أحمد قريع. وحُمل التنديد هذا على الفساد وليس على السياسة. وهذه قرائن على ترجح لم تبرأ منه «فتح»، شأن جماعات عربية سياسية كثيرة، بين «الثورة» و «الدولة» على ما كانت خطابة الستينات تقول. وتترجمه خطابة اليوم ترجحاً بين «المقاومة» وبين «أميركا» أو الاستسلام. ويقود هذا «فتح» وحلفاءها في السلطة والحكومة الى التستر على السياسة التي تنتهجها في الضفة، ويضطلع بها سلام فياض (غير الفتحاوي)، غيرَ مقتصر على التنفيذ أو التقنية الادارية. ويتولى فياض في المناطق التي ينازع الاسرائيليين عليها، ويسهر هؤلاء على أمنهم فيها، توفير شروط حياة يومية ومدنية بمنأى جزئي من سيطرة المسلحين، ومن زج الشارع والأهالي في منازعاتهم ومناسباتهم واحتياجاتهم «الأمنية». واقتضى هذا من خبير البنك الدولي السابق حماية أجهزة الادارة المدنية والبلدية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية - والقضاء ليس ادارة - من تسلط «جماعات الأمن» على ما يسميهم الفلسطينيون. وحمل أجهزة الأمن على تولي أمن المواطنين والناس وليس الاقتصار على أمن قادة الأجهزة و «كوادر» المنظمات السياسية والمسلحة من طريق استدراج المنظمات المعادية الى القتال أو الاقتتال. واضطر نهج فياض «فتح» وقياداتها وضباطها وموظفيها وجمهورها الى بعض الاعتدال وبعض الانضباط. وقبول الفتحاويين (بعض) الاعتدال والانضباط جزء من دفاع «فتح» عن نفسها ودوامها. وعاد هذا النهج على السلطة الوطنية بتأييد «شعبي» معتدل كذلك ومتواضع. وهو يحظى بتأييد أميركي وأوروبي حار، وببعض الرعاية الاسرائيلية. فإلى مصلحة الأطراف الثلاثة في امتلاك محمود عباس، و «فتح» محمود عباس وحلفائه، قواماً غير متهاو بإزاء بنيان «حماس» الأهلي المرصوص، ينفذ سلام فياض، فعلاً ومن غير دلالة إعلامية صاخبة، بعض بنود «خريطة الطريق» الأولى. وحين يدعو فياض الى اعلان دولة فلسطينية من طرف واحد، في 2011، فإنما يربط الانجاز الوطني والأمني بانجاز سياسي مرجو يسوغه الشق الأول. ويتصدر بنود «الخريطة» على ما معروف، بند محاربة الارهاب. وحمل البند هذا على الجد يدعو رئيس الحكومة، ومن ورائه رئيس السلطة وقادة الأجنحة والبيروقراطية الأمنية و «الأعيان» والتجار وبعض الجمهور، الى تعقب ناشطي «حماس» وحلفائها وأقنعتها. ومئات المعتقلين والموقوفين الحمساويين في الضفة الغربية هم فعلاً مقاتلو «حماس» وناشطوها ومفتوها وخطباؤها ودعاتها وأطر جمعياتها ومدارسها، أي عدتها العسكرية والسياسية والاجتماعية. وهم في خدمة سياسة «حماس» وخطها الجهادي الأهلي، ونقضها على خط السلطة الفلسطينية المفترض، والمترتب على قبولها (المترجح) «خريطة الطريق». ولا ريب في أن فوز «حماس» الانتخابي في 2006، على رغم جزئيته ودَيْنه الى تصدع جسم «فتح» ومنازعاتها فوق دينه الى التأييد السياسي، توج بنيان «حماس» الأهلي العسكري والأمني، واسبغ عليه مشروعية «الدولة» الى مشروعية «الحركة». ولا ريب، من وجه آخر، في أن النصر الانتخابي أرسى الانقسام الفلسطيني على بنية تحتية أهلية جرّت الخلافات كلها الى الأسر الأهلي، وحالت بين المتنازعين وبين الاحتكام الى مرجع سياسي ووطني مشترك. ويبلور الانقسام الفلسطيني القائم والمزمن، على النحو الذي أتمته «حماس» في 2006-2007 ثم في الحرب التي استدرجتها على غزة في 2008-2009، نهجاً عربياً - اسلامياً «شرق أوسطياً» توالت المنظمات الفلسطينية ثم السياسة السورية فالسياسة الايرانية - السورية، على حضانته ورعايته. وكان لبنان واللبنانيون، بعد الاردن، مختبر هذا النهج، ولا يزال (ولا يزالون). وركنه الأول فصل الدولة الوطنية، شعباً وجماعات وهيئات تمثيلية وأجساماً ادارية وعسكرية وأمنية، عن مصادر مشروعيتها، وشق المصادر هذه، وأولها «الشعب»، عن الدولة ومعارضتها به. و «الشعب» هذا ليس الشعب السياسي، المتفرق أحزاباً وآراء ومصالح وبلاداً وأحلافاً تجتمع على تحكيم شرعة مشتركة في خلافاتها، بل جزء «الأمة» الاسطوري والثابت على توكيله قيادة الأمة سوسه وأمره الى قيام الساعة («الأبد» الأسدي و «الإلهي» الخميني الحرسي). ويترتب على الفصل والشقاق هذين تكفير الدولة الوطنية، ونسبتها الى «جاهلية» قومية أو دينية، علمانية ودولية عربية. ويستقيم الفصل والشقاق من طريق تخندق حزب أهلي، مذهبي ومحلي و «عامي» جماهيري ومنظم (على معنى التأطير والسوق)، خندقاً واحداً ومتصلاً. و «حزب الله» في لبنان هو مثال الخندق الأهلي القريب من الكمال الذي يقسم الدولة الوطنية خنادق، ويقصر الدولة على خندق منها يستوي والخنادق الأخرى في العموم السياسي، أو يقل عنها. ويقوم الخندق الأهلي نقيض الدولة، ويحتمي بها، وبحقوق انسانها، من تبعات سياسته على الأمن والحريات والاقتصاد. وتنحو «حماس» هذا النحو، ويؤخرها ربما ضعف مواردها الأهلية، وافتقار الفلسطينيين الى التراث التاريخي والاجتماعي والثقافي الذي يتوافر اللبنانيين، ويفرقهم شيعاً وأهواء وينفخ في عزائمهم المبددة معاً. ونوع الإجماع على «المقاومة» الذي تدعو إليه «حماس» و «حزب الله»، وعلى «دولهما» الراعية، إجماع على النمط الأسدي والنجادي الحرسي، لا يتوافر في الأحزاب السياسية، ولا في المجتمعات أو البلدان التي لا تحكمها عصبيات أهلية متسترة بأقنعة الدولة والهيئات والدساتير وتمييز السلطات بعضها من بعض. وعلى شاكلة «حماس» و «حزب الله» و «الجهاد» («وقواعده») و «جيش المهدي» و «جندالله» و «عصائب الحق»، يقتضي دوام المنظمات - الكيانات هذه، ووحدتها المرصوصة و «أمنها»، تعبئة متصلة لا تسوغها غير حال الحرب، الحقيقية أو المحتملة. والدولة أو السلطة التي لا تمتثل لحال الحرب هذه، ولا تسوس بلدانها وجماعاتها بسياسة الطوارئ والاحكام العرفية، تقوم بوجهها خنادق أهلية هي أشبه ب «المناطق المحررة»، التي ترعاها حركات التمرد والثورات المسلحة في أميركا الجنوبية أو في افريقيا وآسيا الوسطى، سابقاً واليوم. وانفصال «حماس» بغزة، وتمردها على السلطة الوطنية، خاتمة متماسكة مع السياق الذي ولدت «حماس» منه. ورفضها الإقرار للسلطة برام الله، ولاجراءاتها، بصفة سياسية ودستورية، ينجم عن رفض الاقرار بسلطة تعلو سلطة الحرب الأهلية وغلبة فريق أهلي على فريق آخر وسحقه. وانتشار عدوى الخنادق اللبنانية، من الخندق الخميني الشيعي الى طيف الخندق العوني المسيحي فالخندق الجنبلاطي الدرزي (وهذا يدعو السنّة الى ألا يكونوا «طائفة» ساعة إعلانه «خصوصية» جماعته)، سلاح ماضٍ في وجه تسلل المنازعة السياسية الى العصبية الأهلية. وعلى هذا، سوغ أحد الوزراء الدروز «الشباب» «خطة» صاحبه «السياسية»، على ما سماها (صحف 23 آب/اغسطس المحلية) بالقول: «أعتقد بعض المنظرين أنه ربما أصبح التقديمون الاشتراكيون (أي الدروز - الكاتب) يؤيدونهم ولا يؤيدون وليد جنبلاط. أعتقد بعض المنظرين أن أنصار وليد جنبلاط وجمهوره قد انفكوا عنه وبالتالي هذه وسيلة من وسائل الضغط للتأثير في موقف وليد جنبلاط». فما يرفض «نصير» وليد جنبلاط احتماله في «الجمهور» الجنبلاطي ترفضه العصبيات الأهلية الحاكمة في جماعاتها و «دولها» ومناطقها. فإذا لم يسعها الاستيلاء على الدولة، ولا الانفصال بجزء من الاقليم، استدخلت الدولة ب «المقاومة» والحرب والعروبة والتحرير والمراوغة والوسطاء. * كاتب لبناني.