تصوروا قبل عامين أن زمن استجداء «المنحة يا ريس» قد ولى وأدبر، وتخيلوا أن «العدالة الاجتماعية» ستتحقق لا محالة، وهيئ لهم أن «رد قلبي» و «الأيدي الناعمة» سيتحولان من نشيد وطني مزمن في مثل هذا الوقت من كل عام إلى مجرد فيلم من الزمن الجميل. لكن هيهات. يهل «عيد العمال» محمّلاً برياح رئاسية احتفالية ملبدة بغيوم اقتصادية كئيبة ومغلفاً باستقطابات سياسية عمالية، بعضها ذو إسقاطات «إخوانية» وبعضها الآخر ذو نكهة ليبرالية ثورية. فمن مؤتمرات عمالية ثورية في مدينة المحلة الكبرى قلب العمال النابض إلى مسيرات اشتراكية حماسية في بورسعيد، إلى مسيرات شعبية هنا وهناك ترفع شعار «عاوزين نشتغل». المشهد يبدو استنساخاً لفعاليات «العيد» قبل عام واحد بالتمام والكمال. حركات سياسية ثورية وجماعات شبابية ليبرالية ومجموعات عمالية مطحونة تحتج وتعترض وتطالب بالعدالة وتبحث عن الحرية وتهتف لرغيف العيش. الفارق الوحيد هو أن الاحتفالات الاحتجاجية قبل عام توجهت إلى مجلس الشعب منددة محتجة بأن «مرتبنا يساوي أربعة كيلو لحمة أو جزمة»، لكنها في هذا العام لن تتوجه إلى مجلس الشعب حيث لا يوجد نواب للشعب، كما أن الرواتب، في حال استمرارها، باتت تساوي كيلوغرامين ونصف كيلوغرام فقط من اللحم وفردة «جزمة» واحدة! وعلى رغم شح اللحوم على موائد العمال وتهتك الأحذية في أقدامهم، إلا أن الألف عامل الذين تم اختيارهم من جانب رئاسة الجمهورية ليمثلوا عمال مصر في الاحتفال الرئاسي الذي تم نقل فعالياته من قاعة المؤتمرات إلى قصر القبة الرئاسي لن يتطرقوا إلى هذه (اللحوم) أو تلك (الأحذية). كما أن الهتاف العمالي التاريخي على مدى العقود الستة الماضية: «المنحة يا ريس» لن يجلجل في أرجاء القصر الرئاسي، لا قبل ولا أثناء ولا بعد إلقاء الرئيس لخطبته أو تكريم قدامى النقابيين. لكن صوت المؤذن سيجلجل في أرجاء القصر إيذاناً بموعد صلاة المغرب التي من المقرر أن تكون إشارة بدء الاحتفال، وذلك بإمامة الرئيس محمد مرسي للصلاة، ثم بدء مراسم الاحتفال الذي دعا إليه كبار رجال الدولة وعلى رأسهم شيخ الأزهر وبطريرك الأقباط. ومن رجال الدولة ومؤسساتها إلى أحرار الدولة ونقاباتها المستقلة التي أعلنت رفضها المشاركة في الاحتفال الرسمي ب «عيد العمال»، مفضلة الاحتفال بطريقتها الاحتجاجية الاعتراضية الخاصة بمسيرات في يوم العيد وليس «الوقفة». المسيرات العمالية الثورية الموازية للاحتفال العمالي الرئاسي في قصر القبة ستبدأ غداً من حي السيدة زينب مروراً بمجلس الشورى وانتهاء بميدان التحرير للمطالبة بما طالبت به العام الماضي من قضاء على البطالة وتثبيت العمالة الموقتة وتنفيذ أحكام القضاء بعودة الشركات التي تم تخصيصها إلى القطاع العام وعدم التدخل في شؤونهم النقابية وهو المطلب الذي بات يئن من فرط التجميد. الثلاجة التشريعية التي تحوي قانون الحريات النقابية والذي منّى عمال مصر أنفسهم بإخراجه غير مرة من ظلام التثليج إلى دفء التطبيق يظلل «احتفالات» أو «تأبينات» العمال هذا العام. ويشير تقرير «الاحتجاجات العمالية في مصر 2012» والصادر قبل أيام عن «المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية» إلى المفارقة العجيبة والمخزية في أن عمال مصر كانوا ينتظرون على أحر من الجمر إصدار قانون الحريات النقابية، لكن فوجئوا بالرئيس مرسي يصدر تعديلات على القانون «سيئ السمعة» الرقم 97 لعام 2012 والذي «يفتح المجال لإجراء عملية إحلال وتبديل لعناصر الحزب الوطني الديموقراطي المنحل بعناصر من جماعة الإخوان المسلمين الحاكمة في النقابات العامة والاتحاد العام مع الإبقاء على البنيان النقابي الاستبدادي». واستبد الغضب والفقر والقرف بالملايين من عمال مصر في ظل أزمة اقتصادية طاحنة رفعت البطالة إلى 13 في المئة ومعدلات الفقر الرسمية إلى 25 في المئة (50 في المئة في بعض محافظات الصعيد)، وفق بيان الموازنة العامة للدولة 2013-2014، وهو ما دفعهم إلى تبوّء مكانة الصدارة الاحتجاجية في البلاد العام الماضي. ووفق التقرير الحقوقي، حازت الاحتجاجات العمالية نصيب الأسد في الاحتجاجات الاجتماعية التي ضربت مصر العام الماضي بنسبة تفوق الخمسين في المئة وبواقع 1969 احتجاجاً. وبينما يحتفل ألف عامل في القصر الرئاسي للمرة الأولى مع الرئيس مرسي بعيد العمال، وبينما تستعد المسيرات الغاضبة والتظاهرات الساخطة على أحوال المعيشة الآخذة في التدني لتجول خارج محيط القصر، يجد كثيرون أنفسهم معلّقين بين السماء والأرض. فالسماء تنضح برومانسية الماضي القريب وبناء المستقبل بطوبة فضة وأخرى ذهب، وهما الطوبتان الشهيرتان في فيلم عيد العمال المزمن «الأيدي الناعمة»، وهي التي طالما دقت على أوتار ومشاعر وأحلام جيل الستينات من القرن الماضي. أما الأرض فتتفجر ببشاعة الحاضر الذي تعدى مرحلة «ابن الجنايني بقى ضابط يا إنجي» الواردة في أيقونة «رد قلبي» إلى مرحلة أخرى تجمع الكل: ابن الجنايني والجنايني وإنجي في مهب رياح «الربيع العربي».