تجمع محمد عبد النبي تشابهات واضحة، وملامح مشتركة، مع الروائي الرائد نجيب محفوظ، فبخلاف الملامح المتقاربة، والمصرية بامتياز، يشترك محمد عبد النبي، مع الروائي الأب، في تبجيل الكتابة، والتعامل معها باحتراف شديد، حتى وإن كانت الكتابة كما يصفها «اللعب بمنتهى الجدية». محمد عبد النبي، والذي يسمّيه أصدقاؤه «نيبو»، أصدر مجموعتين قصصيتين: «وردة للخونة»، و «شبح أنطون تشيخوف»، والمتتالية القصصية «بعد أن يخرج الأمير للصيد»، وأخيراً، وصلت روايته الأولى «رجوع الشيخ» إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية. وبخلاف ذلك، ترجم عبد النبي من الإنكليزية أعمالاً أدبية عدة، منها روايتا الروائي الليبي-البريطاني هشام مطر «اختفاء»، و «بلد الرجال». «الحياة» التقت الكاتب والمترجم الشاب، وكان هذا الحوار: في روايتك «رجوع الشيخ» اشتغلت على اللغة، ونوّعت تقنيات الحكي، وخضت في عالم الأحلام، بالإضافة إلى لعبك بتقنية ما وراء السرد... هل جاء هذا البذخ الفني على حساب الدراما؟ - عملياً، في «رجوع الشيخ» ليس هناك دراما، وربما تكون هذه نقطة ضعف، لكنني قررت أن أتيح لنفسي ارتكاب أخطاء الرواية الأولى، وهو ما يقره بطل الرواية الذي قال: «أنا أرتكب كل الحماقات»، ويبدو أن هناك عُرفاً بين الكتّاب يسمح للروائي ببعض الشطحات في روايته الأولى، سمحت لنفسي بذلك، وتغلبت على ترددي في كتابة نصي الطويل الأول، وقررتُ أن أكتب، متفادياً الصراع الذي تجلبه الدراما، مفضلاً رسم شخصيات وسرد مواقف. ثنائيات «الشيخ رجائي» و «رجائي الصغير»، المرآة والجهة الأخرى، هل فرضت على النص هذا البناء المخاتل والخارج عن المألوف؟ - في ما عدا أن الرواية تنقسم إلى دفترين، واحد على لسان رجائي الكبير، والآخر لا نعرف من هو راويه بالضبط، أنا نفسي لا أعرف لهذه الرواية بناء بعينه، ليس هناك شكل معماري واضح، هي مثل الرمال الناعمة، لم تكن قضية البناء الروائي تشغلني، كان رهاني الرئيس هو الشخصيات، وعدا عن ذلك، فقد تركت المتاهة تبني نفسها. تتناص «رجوع الشيخ» مع نصوص أخرى، كما تتسم بتباين مقصود في السرد بين قسميها الأول والثاني، كيف تنظر إلى مساحة التجريب في الرواية؟ - هناك من يحب خوض التجريب من دون أي حدود، عن نفسي فضلت أن يكون التجريب في الرواية مقنناً، أردتُ أن ألعب مع القارئ، ولأغريه بالاستمرار في اللعب كان عليّ أن أغويه، من طريق تقديم شخصيات، ورسم (بروفايل) لها، ومن ثم أفاجئه ببعض التمويه واللعب... وهكذا. أما في ما يخص التناص، فأرى أن كل كتابة، هي إعادة كتابة لشيء مكتوب، لكن بشروط اللحظة الراهنة الخاصة بالكاتب، هناك مخيلة إنسانية واضحة في النهاية وكلنا نلعب في سياقها. لماذا اخترت بطلاً من جيل السبعينات، هل كان لذلك أي مغزى أو دلالة؟ - لا أبداً، لكنني طالما أحببت أن أكتب عن فترة السبعينات، وانتفاضة الفقراء 1977، كذلك كانت لي أسئلتي حول المثقف المأزوم، وحول الكتابة نفسها، وماهية الرواية ومن هو الروائي... تفاعلت كل هذه الخواطر مع مشاهداتي، وتخلّقت شخصية أحمد رجائي بالوقت. ماذا عن لعبة «ما وراء السرد» أو الكتابة التي تتحدث عن الكتابة؟ - هي لعبة قديمة، وسترى هذا البعد عند نجيب محفوظ في «ثرثرة فوق النيل» مثلاً، وستراه في كتابات روائيين آخرين، بدرجات ونسب متفاوتة، وبالتالي هي ليست موضة. في روايتك بعض الفقرات ترقى في لغتها إلى الشعر، وسبق لك كتابة القصة القصيرة والمتتالية القصصية، كيف ترى الفروق بين الأنواع الأدبية؟ - هذه فروق خلقناها وآمنّا بها، ومصدرها الأكاديميون، وسطوة التصنيف على رفوف المكتبات، من مسرحية إلى رواية رعب، إلى قصة واقعية. إذا قررنا أن نضيف الطماطم إلى السلطة، فليس علينا أن نشغل أنفسنا بما إذا كانت الطماطم فاكهة أم خضراً. خذ أمثلة على كلامي، كيف نصنف «أحلام فترة النقاهة»، أو «أصداء السيرة الذاتية» لنجيب محفوظ، أو «صحِ النوم» ليحيى حقي؟ ولماذا ترجم محمد عناني قصتين لطارق إمام ضمن أنطولوجيا الشعر؟ أنا أتعامل مع النوع الأدبي كإطار للوحة، لا كسجن. في مجموعتك القصصية «شبح أنطون تشيخوف»، وسمت القسم الأول «أصدقاؤنا الشهور»، فهل كان ذلك إعلاناً مبكراً، عبر العنوان، لوجود مستوى آخر للتأويل في النصوص، التي تبدو كقصص وبورتريهات انطباعية عن الشهور؟ ألا ترى أن ذلك قد يُحمّل الشخصيات بدلالات أكبر منهم؟ - بدأت كتابة تلك القصص كتدريبات سردية، عن أصدقائي أو بشكل متخيل، كنت أكتب سطوراً عدة في اليوم الأول، ثم أجعلها عشرة أسطر في اليوم التالي، وفي اليوم الثالث أبدأ في تمويه الشخصية والاشتغال عليها، وبمرور الوقت وجدت أنني أمتلك مجموعة «بورتريهات»، بعدها ظهرت فكرة الروزنامة، وتنبهت إلى تماهي القصص مع الشهور، فقررت حذف اسم صاحب البورتريه، ووضع أنسب الشهور وأقربها الى روح القصة، وهي في النهاية (دلالة حرة)، فليس هناك ما يشير إلى تمثيل قصة ما لشهر ما، لكن المتلقي هو الذي يستنتج أو يمنح تلك الدلالة، حتى أنني كنت أفاضل بين القصص وتوفيقها مع الشهور، وفقاً لإحساسي الشخصي والفني. بعيداً من الفنيات، لماذا زاوجت بين شخصية المثقف، ومفهوم الاختلاف والتميز عن المحيطين به، في متتالية «بعد أن يخرج الأمير للصيد»؟ - لم أفعل ذلك عمداً، كنت أكتب وأنا منساق تماماً للحظة الكتابة، لم أكن أعرف ما الذي أكتبه بالضبط وما ملامحه. «بعد أن يخرج الأمير» كتاب من النوعية التي يكون موقفك منها إما أن تحبها أو ترفضها. أما عن فرادة «فؤاد» كمثقف، فهي غير مبررة بمنطق خارجي، هي رؤيته لنفسه، كما يصف نفسه بأنه (أمير الشوارع). قلت إن الكتابة هي اللعب بمنتهى الجدية، وقلت أيضاً إن الفن هو الخداع الوحيد الذي يهجس بالحق والحقيقة، هل يتلخص الفن فعلاً في المفارقة فقط؟ - لا طبعاً، هذه مجرد لعبة بلاغية. أنا لا أُنظّر ولا أحب التنظير. الموضوع مجرد إسقاط، هل رأيت كيف يلعب الأطفال بجدية؟ أنا أحب هذه الروح في الكتابة، أن تلعب، وتعي أنك تلعب، فتمارس ذلك الأمر باحتراف وجدية. كيف أثر عملك في الترجمة في إنتاجك الأدبي؟ - كما ترى، الترجمة تضعنا في ورطة (التبرع بدم الكتابة للغرباء)، المترجم يبذل طاقته وجهده في الترجمة وهو ما يؤثر في الطاقة المتاحة لكتابة نص، لكن الترجمة في المقابل تفيد أيضاً، فهي تثري علاقة المترجم/الكاتب باللغة، فتصبح أوثق وأكثر حميمية، كما تفيد في جعل الأسلوب أكثر مرونة ليضاهي النص موضوع الترجمة. هل حزنت بسبب عدم وصول «رجوع الشيخ» إلى القائمة القصيرة في مسابقة البوكر؟ - طبعاً تضايقت، عقدتُ آمالاً على الوصول إلى القائمة القصيرة، ولا أخفيك أنني فكرت في حال حدوث ذلك أن استثمر مبلغ الجائزة في دراسة النقد في الجامعة الأميركية في القاهرة. أما في ما يخص لجنة التحكيم، فأنا مؤمن بأن الجوائز مثل «اليانصيب»، وأن لجان التحكيم مجرد سبب، فسواء كانت لجنة من العباقرة أو كانت من صحافيين ورسامي كاريكاتير وخبراء اقتصاد، فهم في النهاية ليسوا سوى مصادفة، وأذواقهم تتحكم في الاختيارات. ليست للجوائز قوانين، حتى البوكر الإنكليزية، بل ونوبل، تحيط بهما تساؤلات واعتراضات. عموماً أنا أرى أن الجوائز هي حلوى الأدب، هي تشجيع ودعم. هل تشعر بالقلق على مستقبل الإبداع في مصر في ظل حكم التيارات الدينية؟ - أنا أقل خوفاً الآن، فالاعتراض على حكم «الإخوان» ليس مقتصراً على نخبة مثقفين ليبراليين أو يساريين، لأن رجل الشارع البسيط يتمنى رحيلهم، الناس يفتقدون تفاصيل حياتهم اليومية ومتطلباتهم الأساسية، وهذا يطمئنني، ثم ماذا بوسعهم أن يفعلوا؟ هناك عشرات دور النشر في مصر، ولو صودر عمل ما، سينشر على الإنترنت، لا خوف على مستقبل الإبداع في مصر.