إذا كان الكتاب التراثي «رجوع الشيخ إلى صباه» - الذي تشترك معه رواية الكاتب المصري محمد عبد النبي «رجوع الشيخ» (روافد للنشر والتوزيع - القاهرة) في حمل شطر من عنوانه - يقدم الوصفات السحرية لحصول الشيخ على أطول زمن ممكن من شباب الجسد المقترن تحديداً ب «الفحولة»، فإن بطل رواية عبد النبي يعثر على وصفته الخاصة التي تحفظ له شبابه في محاولة إنتاج عمل فني روائي ينتصر فيه على شيخوخته المقبلة، مندفعاً بكل قوته نحو استعادة وهج شبابه الداخلي الذي لم يطاوله الزمن. منذ بداية «رجوع الشيخ» يضعنا الكاتب أمام بطله أحمد رجائي، الشيخ المتأمل في رحلة عمره، محاولاً القبض على لحظات ثمينة يبدأ منها كتابة روايته. نحن - إذاً - في مواجهة شيخ عجوز للماضي، وللشيخوخة وجهان، وجه زمني يتعلق بالشيخوخة الجسدية - وهذا له دلالاته الكافية في الرواية - وآخر نفسي بمعنى تمكن الشيخ من تقديم رؤيته الخاصة للأمس، أن يرصد الزمن، ويتأمل التاريخ، تاريخه هو على وجه التحديد. يقلب أحمد رجائي ماضيه من أسفل إلى أعلى، من الماضي إلى اللحظات الراهنة، ليشتبك الفن بالواقع، لأن أحمد رجائي الشيخ العجوز ليس شخصاً عادياً، بل هو روائي مستتر، كاتب غير مكتمل، لم تنضج تجاربه في الكتابة وظلت تعاني النقص، وظل طوال حياته يبحث عن دائرة اكتماله الفنية. يقدم الكاتب محمد عبد النبي شخصية استثنائية تكشف عن قصورها الفني، وتسعى للحصول على تعويض مرضٍ عما فاتها، لذا يأخذ الخطوة الأولى بأن يشتري دفترين وقلمين متماثلين؛ هو يريد كتابة روايته الخاصة، لا حياته بل رواية حياته التي ينبغي أن تكتمل قبل أن ينتهي ما لديه من رصيد زمني في الحياة. وإذ كانت الشيخوخة بما تعنيه من زمن استقرار وركون إلى الحاضر المعيش، فإنها وفق هذا المعطى لا تتحقق في بطل «رجوع الشيخ»، القلق، الباحث عن غده، بلا ركون أو استسلام لإخفاقات ماضيه التي لم تنتج أي عمل إبداعي يجعله مشبعاً وراضياً عن أمسه. هكذا لا يتوافر في بطل محمد عبد النبي أي خصائص اعتيادية للشيخوخة، هو يبدأ من حيث يجب أن ينتهي، يتقدم بلا وجل ليسرد ما لديه من حكايات، محققاً في محاولة الكتابة من جديد عنصراً حيوياً - من مزايا الشباب - في القدرة على مواصلة ديمومة الكتابة، وكأن الكتابة هنا معادلة مثالية لديمومة الحياة، لنقرأ: «لا أستطيع حتى الآن أن استقر على نغمة هذه الرواية، أو هذا المشروع الجديد، نزوتي الأخيرة، امتحاني النهائي. فهل هي حنين ساذج لزمن مضى... أم أنها تجميع عشوائي لحكايات وقصاصات ومشاريع قديمة غير مكتملة». الكتابة والزوال تبدأ الرواية بعبارة تحمل دلالات الديمومة، والتشبث بالحياة عبر الكتابة، يقول: «اتخذت قراري ولن أتراجع عنه، على رغم معرفتي بأنني سأموت مع كلمة النهاية. يا سلام! لهذه النبرة كل رعونة الشباب، وكأنني رجعت شاباً من أول وجديد». تضع هذه البداية القارئ أمام ثنائيات منها الذهني مثل: الشيخوخة والشباب، الحياة والموت، والكتابة كفعل وجود يقابله عدم الكتابة والزوال؛ هذا إلى جانب ثنائيات مادية تجسدها أدوات الكتابة البسيطة وهي: دفتران، قلمان. وفي هذا الاختيار تنويه على الزمن الذي ينتمي إليه البطل أحمد رجائي، فهو متمسك بالكتابة على الورق، بل يرتبط معه بعلاقة حميمة كما يتضح خلال الرواية. هذه الثنائيات الموجودة منذ البداية تحضر على مدار النص، وفي الشكل الفني للرواية بحيث اختار الكاتب تقسيمها إلى «الدفتر الأول» و «الدفتر الثاني». في الدفتر الأول يروي أحمد رجائي حكايته بضمير «الأنا»، وفي الدفتر الثاني يظهر راوٍ عليم ليحكي عن بطل آخر هو الشاب «رجائي الصغير»، الذي يواجه أشباح الكتابة أيضاً وعبر الورق لأنه لا يفضل الدفاتر، ولا يحب الكتابة مباشرة على الكومبيوتر. وفي هذا الجزء تظهر ثنائية البطلين: الشيخ أحمد رجائي، ودفتراه، اللذان أعطاهما للشاب الصغير أحمد رجائي، ليمضي السرد نحو التطابق بين البطلين، العجوز والشاب. وعلى رغم التباس عنوان رواية عبد النبي التي تستدعي كتاباً تراثيّاً عربيّاً، إلا أنه لا يمكن قراءة روايته من دون استدعاء رواية «الشيخ والبحر». فالعجوز «سانتياغو» في رواية همنغواي، يتمتع بالحيوية والنشاط، لكنه يعيش إخفاقه المكشوف في رجوعه كل يوم عاجزاً عن اصطياد أي سمكة، تماماً كما يخفق أحمد رجائي في إكمال أي مشروع روائي على مدار حياته. سانتياغو العجوز يصارع أسماك القرش وفي النهاية تنتصر أسماك القرش، فلا يبقى سوى هيكل عظمي، يتركه على الشاطئ، ليكون فرجة للناظرين، فيما أحمد رجائي يواجه أشباح الكتابة في محاولة للانتصار لا على زمنه الراكد الذي مضى من دون إنجاز يذكر. كلا الشيخين مع اختلاف التوجه والمعيار يخفق في اتجاه ما، لكنه يكمل مسعاه، يعبر كل منهما عتبة الخوف من الهزيمة ويمضي في طريقه، وكأن هذا التصرف ضروري وحتمي لمواجهة العجز. وهنا يمكن نسبة هذا العجز الإنساني إلى النقص اليومي في رصيد الزمن المتاح لكل إنسان، في موازاة تحقيق ما لم يتحقق من رغبات، وهذا كله يحضر ليواجه محنة الزوال، الموت الجسدي والنفسي. لكن عدم الاكتمال المتوافر في «رجوع الشيخ»، وفي معاناة كلا البطلين رجائي العجوز، ورجائي الصغير، يحمل دلالته الخاصة في النص منذ بدايته مع اختيار الكاتب عبارة ايتالو كالفينو: «ليس ثمة مكان أفضل لحفظ السر من رواية غير مكتملة»، وكأن عدم الاكتمال الفني هنا يشكل خيطاً أساسياً لعدم اكتمال الحياة بكل جمالها، وقبحها، حيث جوهر المعاناة يتمثل في التساؤل عن ماهية الحياة، وجدوى الكتابة. هذا نراه مع تشبيه حياة رجائي الصغير بأنها قصة قصيرة، سوف تُكتب وتنشر في جريدة مسائية يقرأها بعض المهتمين، ثم تُنسى إلى الأبد. ولعل هذا التشبيه الذي يحضر في صيغ أخرى عبر النص يتكرر ليؤكد السؤال الذي يحكم رواية «رجوع الشيخ»، ما الذي سيبقى من الحياة؟ وما الذي سيبقى من الكتابة؟