سياسة «النأي بالنفس» عن الأزمة السورية لن يكون لها قريباً مكان في قاموس جميع المعنيين بالأزمة. تتساقط أوراقها واحدة تلو أخرى. نجح النظام وخصومه في جر الجميع إلى كشف أوراقهم، ودفع المتصارعين في سورية وعليها إلى إعادة تموضع صريحة لا لبس فيها. وما كان يقال عن نقل الصراع خارج الحدود بات حقيقة فجة لا يمكن التغاضي عنها أو تجاهل مفاعيلها، أو التزام جانب الحياد إيجابياً كان أم سلبياً. ونظرة إلى دول الجوار القريب تظهر مدى التغييرات التي طرأت على سياسات هذه الدول. إسرائيل التي كان ملف الأسلحة الكيماوية شغلها الشاغل ولم تتردد في الإغارة على منشأة قرب دمشق، دخلت طرفاً في موضوع تسليح المعارضة. حذرت صراحة معبرة عن رفضها لئلا ينتقل العتاد إلى أيدي مجموعات متطرفة باتت على حدودها الشمالية. ولا تخفي قلقها من قيادة «أبو محمد الجولاني» ل «جبهة النصرة». وكانت دوائر تحدثت سابقاً عن إمكان قيام منطقة عازلة في الجولان الذي يخلي النظام مواقع فيه لحشد قواته في العاصمة وغيرها من المواقع. وهو قلق تتشارك فيه مع الأردن الذي يراقب بحذر قيادة «أبو أنس الأردني» لعمليات «النصرة» جنوب سورية، واندفاع مئات من الأردنيين للقتال في صفوف هذه الجبهة. لذلك لم يتردد الأردن في مغادرة مربع الحياد، بعدما التزم إقفال الحدود في وجه المسلحين طوال السنتين الماضيتين. رفض منذ البداية أن يفتح حدوده لتسليح المجموعات المعارضة. كان سؤاله دائماً في وجه الضاغطين لفتح حدوده عن الضمانات لعدم وصول هذا السلاح إلى قوى متطرفة سيضطر لاحقاً إلى التعامل معها بالقوة ، سواء سقط الأسد وانتصرت المعارضة أو سقطت سورية كلها في الفوضى. لأنه ببساطة لن يكون قادراً على دفع تداعيات هذه الفوضى. لن يكون محصناً في مواجهة تشظيات الصراعات بين المجموعات المسلحة وعلى رأسها «جبهة النصرة». ولن يهدأ له بال إذا جاء التغيير في دمشق بما جاء به التغيير في تونس أو القاهرة! لا تخيف الأردن التهديدات التي أطلقها الرئيس بشار الأسد في حديثه التلفزيوني قبل أيام. التاريخ بين الجارين حافل بالصراع، من أيام الملك حسين وحافظ الأسد. نظر البعث في دمشق إلى الجار الجنوبي دائماً كما كان ينظر إلى الشقيق الصغير لبنان، وإلى منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها. كان يجاهد بكل أسباب القوة والضغط وحتى الإرهاب ليبقى هؤلاء جميعاً تحت العباءة الشامية، جزءاً من لعبته الداخلية وورقة في علاقاته الخارجية. ما يخيف الأردن اليوم ولا يزال خياران أحلاهما مر: تنامي دور المجموعات المتطرفة التي عاثت في أرض العراق ولم تسلم منها عمان، أو صعود «الأخوان» في سورية لأن صعودهم يعطي زخماً للمعارضة الأردنية التي تقودها «جبهة العمل الإسلامي». لكن خروج الأردن من حياده حيال الأزمة السورية لا يعني بالضرورة انخراطه بلا حساب خلف المعارضة وتسليحها. ثمة حسابات داخلية دقيقة تفرض على قيادته أن تقيس خطواتها بميزان دقيق. لا بأس بتسهيل تحرك مقاتلين في صفوف «الجيش الحر» وغض الطرف عن مدهم بالسلاح اللازم ليشكلوا كتلة وازنة في مواجهة «الجهاديين» تكون قادرة على الإمساك بمنطقة عازلة إذا كان متعذراً التدخل الرسمي الأردني وحتى الدولي لتوفير مثل هذه المنطقة، بسبب الفيتو الروسي والصيني. قد لا يكون الهدف الأول من ذلك التعجيل في إسقاط النظام ما دام أن صورة البديل لم تتبلور بعد. المهم في هذه المرحلة وقف تدفق اللاجئين. لم تعد المملكة قادرة على استقبال مزيد من الفارين من سعير الحرب. ولا يمكن اقتصادها توفير الخدمات لهؤلاء الذين باتوا يشكلون قنبلة موقوتة أمنياً واجتماعياً بعدما باتوا ينافسون أهل البلاد في سوق العمل ويتفاعلون يومياً مع ما يجري في الداخل السوري وقد لا يكونون غداً بعيدين عما يجري في الداخل الأردني. ويخشى الأردن، مثل بقية الجيران والمجتمع الدولي من مخزون النظام السوري من الأسلحة الكيماوية في حال تمادي الفوضى أو وقوع مفاجآت. ولعل استقباله بضع مئات من القوات الأميركية وسعيه إلى بطاريات صواريخ مضادة، يقعان في باب التحوط للمستقبل. مثلما يخدم وجود هؤلاء أهدافاً أميركية أخرى، بينها ابقاء حكومة بنيامين نتانياهو بمنأى عن التدخل المباشر في الأزمة السورية. تماماً كما أرادت إدارة الرئيس جورج بوش الأب بإرسالها صواريخ «باترويت» إلى إسرائيل إبان حرب تحرير الكويت! وبينها توجيه رسالة لمن يرفع التهديد في وجه الأردن، سواء من جانب الأسد أو غيره. وربما كان لها دور مستقبلاً في حماية مناطق يحررها «الجيش الحر». ولا شك أيضاً في أن خروج الأردن عن حياده وبدء انخراطه المحسوب والدقيق في الأزمة السورية، يفقد معارضيه في الداخل ورقة أساسية بدعواتهم المتكررة إلى مساعدة «أخوانهم» السوريين. لا يعني ذلك أن الأردن سيكتفي بهذا القدر بعيداً عن التورط المباشر. قد لا يتردد لحظة إذا شعر بوجوب التدخل المباشر لحماية أمنه الداخلي ومستقبل النظام. وثمة سابقة قريبة عندما لم يتردد، عشية الغزو الأميركي للعراق، في إرسال قوات خاصة لحماية آبار النفط في مناطق الجنوب. وهو إذا كان تغاضى عن ضبط حدوده الشمالية مع سورية أمام المقاتلين فإن ذلك يحقق له هدفين بحجر واحد: إذا كان المقاتلون العابرون من أنصار «النصرة» فلا بأس في أن يخرجوا ليستنزفوا في القتال مع قوات النظام. وإذا كانوا لإمداد من يسمونهم بالقوى المعتدلة في «الجيش الحر» فلا بأس أيضاً بالتعويل عليهم في مواجهة المتشددين والحفاظ على أمن الحدود. المهم ألا يكون هؤلاء قوة إضافية سواء للمتشددين أو لجماعة «الأخوان». هذه التطورات من موقف نتانياهو من تسليح المعارضة، إلى التغيير المحسوب في الموقف الأردني، إلى وصول بضع مئات من القوات الأميركية إلى المملكة الأردنية، تشي ببساطة أن الباب أمام تسليح المعارضة سيظل موارباً بما لا يسمح بإبادتها على يد النظام. أما «الأصدقاء» وعلى رأسهم الفرنسيون والبريطانيون الذين التقوا قبل يومين في اسطنبول، فسيزدادون تخبطاً في ترجمة حماستهم إلى مد المعارضة بالعتاد الفاعل. لم تكن تكفيهم معارضة الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي حتى جاءتهم «الهجمة الشيشانية» في بوسطن لتؤكد خطورة انتشار «القاعدة» في سورية، وتعزز مخاوف المعترضين من وقوع أسلحة فتاكة في أيدي عناصرها. وهم وجدوا في ورقة «النصرة» مشجباً يعلقون عليه ترددهم في إمداد المعارضة بما تحتاج إليه من سلاح. لا تريد الولاياتالمتحدة ولا أوروبا ولا حتى الأردن وإسرائيل وتركيا التدخل الميداني المباشر. ولا تريد بالتأكيد تدفق الأسلحة إلى سورية بلا رقيب. ما تريده أن تكون المعارضة قادرة على تحرير منطقة وحمايتها لاستقبال مئات آلاف اللاجئين الذين لم تعد دول الجوار قادرة على استيعابهم بلا متاعب. وأن تكون قادرة أيضاً على الصمود إلى أن يحين موعد الحل السياسي الذي يحقق التغيير المطلوب بما يحفظ الهياكل الباقية للدولة السورية. ربما المطلوب شهران أو ثلاثة أشهر حتى تختار إيران رئيسها الجديد. ألم يطلب وزير الخارجية الأميركي الانتظار حتى هذا الاستحقاق؟ وحتى ذلك التاريخ لا بأس بمزيد من استنزاف النظام وحلفائه ...وخصومه أيضاً من «القاعدة» وأخواتها. ولا بأس بأن تعد كل هذه الدول خططها الميدانية لمواجهة أي مفاجأة. ولا بأس بأن ينتظر الأخضر الإبراهيمي بدل أن يستقيل. لا بأس بأن يبقى حاضراً جاهزاً عندما تزف الساعة... وإلا ماذا يفعل ما دام أنه يعترف بأن تقريره الأخير هو ذاته الذي قدمه قبل ثلاثة أشهر!؟ الجاران الآخران لسورية يجدان فرصة للانتظار، لئلا يتحول انخراطهما الميداني المباشر في سورية صراعاً مباشراً ومفتوحاً في الداخل. حكومة نوري المالكي اختارت الذهاب إلى انتخابات مجالس المحافظات لعلها تنفس الاحتقان السياسي في العراق الذي يقترب بخطى حثيثة من إعادة بعث حربه المذهبية التي كادت أن تودي بالبلاد منتصف العقد الماضي. يأمل زعيم «دولة القانون» من هذه الانتخابات التي تجرى للمرة الأولى بعد انسحاب الأميركيين من العراق في أن يجدد زعامته، وأن يعتبر من نتائجها لمواجهة استحقاق الانتخابات البرلمانية العام المقبل... ولمواجهة خصومه قبل كل شيء. أما لبنان المنشغل بلعبة تأليف الحكومة الجديدة فيجب أن يشغله مئات آلاف اللاجئين الذين لا يشكلون عبئاً على أمنه واقتصاده بقدر ما يهددون نسيج تركيبته الطائفية والمذهبية الهشة وموازينها الدقيقة والحساسة!