توجه أبو محمد الجولاني، قائد جبهة النصرة الإسلامية في سورية، بخطاب «لأهل الشام والمجاهدين» في نهاية شهر كانون الأول هو الأول من نوعه، بدت فيه بوادر تحول في أداء الجبهة لتصبح القوة المقاتلة الرئيسة ضد النظام السوري. ولم يذكر في كلمته اسم «الجيش الحر»، واستعاض عنه ب «الكتائب والجماعات المقاتلة». مناسبة الخطاب كان إدراج الولاياتالمتحدة الجبهةَ في قائمة المنظمات الإرهابية، لكن بدا واضحاً أن الجولاني كان يتحدث من موقع القوة، وحذّر من أنه «لا يقطفنّ ثمار الثورة غير زارعيها»، ونبَّه أتباعه وأهل الشام من استبدال النظام السوري بنظام غربي. هذا الخطاب حمل معه مؤشراً ميدانياً يسنده ويدعمه، فالجيش الحر يتعرض للالتهام، ويتحول من جسم عسكري عام ورئيسي للثورة إلى مجرد فصيل مقابل «جبهة النصرة»، التي أثنت على الجهات التي أدانت قرار إدراجها في قائمة الإرهاب. في زيارتي إلى حلب، خرجت بانطباع ان «النصرة والفصائل الإسلامية ما زالت على هامش الصراع في الريف الحلبي، لكن داخل مدينة حلب ظهرت صورة أخرى أمكن التنبؤ بها، وهو أن التنظيمات الجهادية، وعلى رأسها «جبهة النصرة»، كانت أكثر فصيل يدرك ما الذي يدور من حوله دولياً وإقليمياً. ولمحاولة معرفة كيف بدأت «النصرة» بإيجاد بيئة لها، يكون لزاماً علينا طرح سؤال آخر: هل هذه البيئة ستكون فصلية «موسمية» تنتهي بسقوط النظام أم أنها ستكون مقيمة وفق مشروع يتجاوز سورية برمّتها؟ استراتيجية الحرب في ريف حلب، أطلعني أحد أعضاء «النصرة» على كتيّب بعنوان «استراتيجية الحرب الإقليمية على أرض الشام»، وهي رؤية جادّة كتبها أحد محللي تنظيم «القاعدة»، ومتوافرة على الإنترنت، تفيد قراءتها في فهم انطلاقة الجهاديين المدروسة في سورية. ووفقاً للدراسة، فإن «معركة الشام القادمة سيكون عنوانها الرئيسي البقاء للأذكى». وباعتبار أن هذه السطور هي محاولة لفهم كيف ظهرت «بيئة الجهاد»، فإنه تكفي الإشارة إلى الركائز الثلاث التي تنطلق منها «النصرة» للعمل في المسرح «الشامي». المرونة في التحرك الركيزة الأولى هي اعتماد «استراتيجية المرونة»، لأن سورية «ساحة حرب طويلة الأمد وبعيدة التأثير، وهذا يحتم وجود قوة قائمة بذاتها وتتمتع بمرونة في حالتي التمركز والحركة». ونجحت «النصرة» حتى الآن في تسيير هذه الركيزة بذكاء فاق كل المخططين الهواة في الجيش الحر، حيث بدأ دخول الجبهة إلى سورية ببضعة أشخاص قاموا بمهمة استطلاع للبيئات الأهلية في ريفي حلب وإدلب (الغربي)، ثم بدأوا بإدخال عدد محدود من المقاتلين الذين اتخذوا مواقعهم مباشرة في أشرس خطوط المواجهات في مدينة حلب (حي الإذاعة)، واكتسبوا احترام مقاتلي الجيش الحر، الذين كانوا مرتاحين لتولي هؤلاء الجهاديين لخط الاشتباك القاتل. ومع تدفق عدد أكبر من المتطوعين العرب والأجانب وعدد محدود من السوريين ذوي التوجهات الجهادية مسبقاً، انتقلت النصرة إلى تصدير نشاطها القتالي إلى الريف، واختارت بيئة مدروسة ومؤهلة لتقبل فكر التنظيم الجهادي والعمل على خدمته، واختارت نقطتين: أولاً، محيط القواعد العسكرية الحصينة في الريف الغربي، مثل الفوج 46 وقاعدة الشيخ سليمان، التي استولت عليها جبهة النصرة وكتائب متحالفة معها، ولاحقاً منطقة الباب في ريف حلب الشرقي. هذه الركيزة (الاستراتيجية المرنة) جنّبت جبهة النصرة التمركز في حي مدني يسهل حصاره، وخاصة أنها لا تنظر بعين الراحة إلى علاقتها بقادة الجيش الحر «الذين قد يعقدون صفقة مع الغرب لتصفيتهم»، وفق ما قال عضو في التنظيم الجهادي. هذه الاستراتيجية تتيح لهم التقدم في خطة السيطرة على خطوط الإمداد والتموين بين تركيا وحلب، كما أن اندفاعهم لمهاجمة الثكنات العسكرية الضخمة مكّنهم من الاستيلاء على كمية كبيرة من الذخيرة والمعدات العسكرية من دون الحاجة إلى التمويل الخارجي كما هو حال الجيش الحر، الذي كانت تأتيه -حتى فترة قريبة- جعب الرصاص ومخازن الكلاشنيكوف عبر وسطاء في تركيا. وبهذه الطريقة، أمكن جبهةَ النصرة جذب الكتائب ذات الميل الجهادي إلى العمل معها. وعلى سبيل المثال، أعلن الشيخ توفيق شهاب الدين، قائد كتائب نور الدين الزنكي، انفصاله عن لواء التوحيد التابع للجيش الحر في السادس من كانون الأول. ورغم أن الانفصال التنظيمي لم يعقبه انضمام الشيخ توفيق لجبهة النصرة، إلا أنه جاء مباشرة بعد مشاركته في الاستيلاء على قاعدة «الشيخ سليمان» بالتعاون مع النصرة. وهنا يسجل التنظيم الجهادي نقطة تكتيكية أخرى، وهي تقليص حجم الألوية الضخمة، مثل «التوحيد»، عبر إغراء فصائل مهمشة ضمن ألوية كبيرة بالاكتفاء الذاتي. وكان لافتاً أن لواء التوحيد شن الهجوم الكبير على مدرسة المشاة شمال حلب من دون إشراك جبهة النصرة، التي لا تبالي بالتمدد في الريف الشمالي، كونه خط إمداد ضعيف مقارنة بالريف الغربي لحلب، وكذا بالريف الشرقي، الذي تأتي أهميته كبوابة تطل على محافظات الرقة والحسكة ودير الزور. هذه النقاط السريعة تشير إلى نجاح جبهة النصرة في استثمار استراتيجية المرونة من دون أخطاء تذكر. لذلك، عندما أدرجت الولاياتالمتحدة جبهة النصرة في قائمة الإرهاب، لم يجرؤ أي تنظيم عسكري ميداني على تأييد الخطوة الأميركية، لأن خطوط الإمداد باتت تقع تحت سيطرة الجهاديين. الدور الوظيفي الركيزة الثانية، وفق رؤية «محلل القاعدة»، هي أن يكون هناك «دور وظيفي» محدد للجهاديين، وهذا الدور تم حصره في أداء العمل العسكري، لأن وجود مثل هذه الحرب في سورية «سيعود بنا إلى قوانين الغابة والبقاء للأقوى»، والمقصود -وفق المحلل عينه- أن «من سيمتلك القوة على الأرض سيمتلك بقية أنواع القوة الموجودة تبعاً لذلك»، وهذا يؤدي إلى أن تنأى الجماعة بنفسها عن الأمور الإدارية والخدمية -موقتاً- لتفادي تشتيت القوة، كما حدث في العراق حينما أعلنت القاعدة عن دولة العراق الإسلامية خلال حربها، وأنشأت وزارات ومسؤولين إداريين. كما أن طول أمد الحرب، الذي ينظر إليه تنظيم «القاعدة» كجائزة للجهاد، سيجعل المجتمع القروي أو المدني تابعاً للقوة العسكرية، على عكس الحروب الأقل سخونة والأقصر وقتاً، التي ما إن تنتهي حتى تبدأ قوى المجتمع المدني في التعبير عن نفسها والمطالبة بالحكم وإرجاع العسكر والمقاتلين إلى ثكناتهم، كما حدث في ليبيا. ما مدى نجاح جبهة النصرة في تحقيق الاستراتيجية الثانية؟ من الواضح أن جناح «القاعدة» في سورية تنظيم مرن جداً في إعادة ترتيب الأولويات، وتحسب له قدرته على تغيير التكتيكات بسلاسة في سبيل الوصول إلى الهدف الاستراتيجي، أي السيطرة الشاملة بغطاء شعبي لا بأس به يمنحه القدرة على التحوّل إلى فصيل سوري محلّي. ويبدو أن هذه الغاية هي على رأس الأهداف المطلوب تحقيقها على المدى القصير، بألاّ تظهر الجبهة كقوة دخيلة على المجتمع السوري. وتدرك جبهة النصرة أن عملية الالتصاق بالمجتمع تتطلب الابتعاد عن تكتيكات «دولة العراق الإسلامية» ذات الأطر الإدارية المعقّدة التي أصابتها بمقتل، كما يدرك قياديوها أن هناك لحظة صِدام لا بد قادمة مع القادة السوريين في الجيش الحر وفعاليات المجتمع المدني، وحتى مع طيف واسع من الإسلاميين السوريين الذين لا تروق لهم الأممية الإسلامية لتنظيم «القاعدة». وسارع هؤلاء جميعاً إلى دعم تأسيس هيئات شعبية محلية لإدارة الأحياء المحررة في مدينة حلب بدعم من رجال دين محليين. ويظنّ هؤلاء أن إمكانية تغلغل جبهة النصرة في الإدارات المدنية أو اختراقها عبر موالين لها قد أصبحت من الماضي، وأن كل الأبواب أغلقت في وجوههم ما عدا باب «الجهاد العسكري». وهذا صحيح، لكن مع الأخذ في عين الاعتبار أن هذا ما تريده جبهة النصرة: عدم التورط في الإدارة، لأن ساحة الصراع في سورية هي «حماية الذات»، وتتطلب القوة الخشنة، على عكس اليمن، التي تنخرط فيها «القاعدة» إدارياً، لأنها ساحة «إثبات الذات» وتتطلب قوة ناعمة. الركيزة الثالثة في استراتيجية القاعدة في سورية تستند إلى مبدأ «استمرار الصراع»، وملخصه رفض أي توافق على حل سياسي كالذي يسوِّق له الأخضر الإبراهيمي. وبناء عليه، فإن هناك سلسلة من الأعداء يتم التسويق لهم، بدءاً من «النظام العلوي» وانتهاء ب «العدو الصهيوني»، ويمكن أن يضاف إليهما أيضاً نمط الحكم الذي قد يأتي بعد نظام الأسد. استمرار الصراع المثير في الأمر أن «القاعدة» مطمئنة جداً لجهة إحجام الأميركيين عن التدخل، لدرجة أن زعيم جبهة النصرة أبو محمد الجولاني اتّهم الولاياتالمتحدة والمجتمع الدولي ب «مد عمر النظام» السوري، رغم أن هذا بالضبط ما تريده النصرة. والمشهد أصبح مركّباً، فكما أن الأميركيين يعتاشون على الرفض الروسي في إصدار قرار أممي يجيز التدخل العسكري، فإن جبهة النصرة أيضاً تتغذى على التردد الأميركي حول مد السوريين بالسلاح. واشنطن تتحدث أخلاقياً على ظهر موسكو، و «القاعدة» تتمدد شعبياً على ظهر واشنطن. خلال لقائي بأحد قياديي جبهة النصرة في ريف حلب، تحدثتُ عن نقص السلاح والذخيرة في أيدي الجيش الحر، لكنه اعتبر أنّ هذا أفضل ما يجري حالياً، لأنه كفيل بإعادة السوريين إلى شرع الله، وهذا لن يكون إلا بعد أن يكتشف الثوار خداع الغرب لهم لأكثر من سنة. واليوم بات هناك قطاع واسع من السوريين، الذين كانوا يناشدون أميركا التدخل لإنقاذهم، يتهمون قوى من المعارضة بأنهم تابعون للأجندة الأميركية! وتوضح ذلك أكثر في تظاهرات جمعة «لا إرهاب سوى إرهاب الأسد». هذه الركائز الثلاث تسير بمرونة ونجاح باهر حتى الآن. وساعد الانفلات الأخلاقي لبعض كتائب الجيش الحر وارتكابهم السرقات، في أن يصبح وجود جبهة النصرة مطلباً للبورجوازية الصناعية المتوسطة، حيث تعرض الكثير من المصانع للنهب، وبات أمل أصحاب المصانع الناجية هو دخول جبهة النصرة إلى المناطق الصناعية «لأنهم لا يسرقون» وفق أحد الصناعيين، فمداخل الجبهة على المجتمع الحلبي ليست دينية فقط، بل اقتصادية أيضاً. أضف إلى أنها لم تعلن عن إنشاء محاكم تحاسب المدنيين على التجاوزات، وانكشف شيء من الفساد المركّب في سلك القضاء الارتجالي الهش الذي صاغته كتائب مقاتلة. وهذه المؤشرات تمهّد لاستنجاد شعبي على نطاق ما بجبهة النصرة لإدارة شؤونهم اليومية، ويردد متظاهرون في حلب كل جمعة شعار «الجيش الحر حرامي.. بدنا الجيش الإسلامي». إن نجاح جبهة النصرة أو فشلها في سورية يرتبط بشكل أساسي بمحافظتي حلب وإدلب، أما المدن الأخرى فهي محطات لاحقة ضمن استراتيجية طويلة الأمد، ويتوضح مثلاً اعتمادهم في حلب على المواجهات المباشرة ضد قوات النظام وجهاً لوجه، بينما في دمشق وريف حماة فالأسلوب عراقي (السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية). خلال النصف الأول من عام 2012 كان عناصر التنظيم، الذين جاؤوا من دول شتى، يقيمون كضيوف في أرياف حلب، ويقاتلون من دون أن تكون لديهم مقرات دائمة في المدينة. اليوم، هناك بيئة صغيرة تنشأ هي في طريقها للتوسع للوصول إلى «مجتمع القاعدة»، أو هكذا يطمح قياديو «القاعدة»، الذين لا يرون في سورية سوى محطة في رحلة ستأخذهم من حلب وادلب إلى جبال العلويين في اللاذقية لاحقاً وصولاً إلى أماكن أخرى أبعد من سورية. * كاتب وإعلامي كردي سوري