لا تكاد المعارضة السورية، بشقيها السياسي والعسكري، تجتاز عقبة حتى تواجهها عقبات. لم يكن يكفيها الملف الكيماوي الذي حال ويحول حتى الآن دون تفاهم أو إجماع دولي على إطاحة النظام، حتى فتح ملف «القاعدة» على مصراعيه. لا يفيد الجدل والتذاكي في تفسير ما قاله «أبو عمر البغدادي» ورد «أبو محمد الجولاني»، فليس هناك فرق سواء تبع الجناح السوري من التنظيم شقيقه العراقي أم جدد البيعة للأصل. ليس هناك فرق في الأيديولوجية ولا في وسائل العمل العسكري، سواء تبع الفرع أو الأصل. إلى هذين الملفين الشائكين كانت تكتلات سياسية ونشطاء وكتائب عسكرية في الداخل والمؤتمر الذي عقدته مجموعة من العلويين في القاهرة قبل أيام، فتحت ملف المعارضة السياسية في الخارج، عبر مطالبة «الائتلاف» بتوسيع هيئته لتضم مزيداً من ممثلين لتيارات مدنية وليبرالية وعلمانية، ولمجموعات تعمل على الأرض السورية. وهو ما يعبر عنه المجتمع الدولي بتشديده على وجوب مخاطبة الأقليات وطمأنتها. وسترتفع وتيرة هذه المطالبة بعد تقديم «النصرة» أوراق اعتمادها علناً للدكتور أيمن الظواهري، ورفعها راية الدولة الإسلامية أو دولة الخلافة في بلاد الشام. ثلاثة ملفات كافية لإطالة عمر الأزمة ومعها عمر النظام. جديدها أن «جبهة النصرة» كشفت وجهها الحقيقي. أربكت المعارضة بمقدار ما قدمت مادة قيمة وسلاحاً مؤثراً يستند إليهما النظام في مواجهة كل الضغوط التي تطالبه بالتسليم بالحل السياسي تمهيداً لرحيله. وهو لم يتأخر في التوجه إلى الأممالمتحدة لإدراج الجبهة في «القائمة الموحدة للتنظيمات والكيانات المرتبطة بالقاعدة عملاً بقرار مجلس الأمن الرقم 1267». ليس سراً أن المعارضة حاولت الدفاع عن الجبهة بعدما أدرجتها الولاياتالمتحدة على لائحة الإرهاب. ولم تنفِ كتائب كثيرة في «الجيش الحر» التنسيق معها في كثير من الجبهات والمواقع. «الجولاني» لم يبايع الظواهري، بل جدد البيعة. أي أنه حاول طويلاً إخفاء العباءة التي يرتديها. لعله لم يشأ أن ينفر المواطنين السوريين الذين لم يكونوا بعيدين عما فعله تنظيم الزرقاوي قبل سنوات في العراق المجاور. أراد تحاشي أخطاء التنظيم في العراق. ولكن، كان على قادة «المجلس الوطني» وعلى رئيس الائتلاف معاذ الخطيب أن يتمهلوا في اعتراضهم على الموقف الأميركي من الجبهة. هم يعرفون بالتأكيد أن السفير روبرت فورد يعرف عنها الكثير. لقد كان في عداد الفريق الأميركي الذي واكب في بغداد رفع عديد القوات الأميركية في آخر أيام الرئيس جورج بوش من أجل مواجهة «القاعدة». وكان أساسياً في بناء «الصحوات» التي واجهت التنظيم في العراق. ويعرف السوريون، مثلما يعرف السفير فورد، أن قادة «النصرة» جلهم جال في العراق وصال أيام الزرقاوي. وكانت للنظام السوري آليات وأجهزة وقاعدة بيانات سهلت وصول أعداد كبيرة من المتطوعين من شمال أفريقيا وشبه الجزيرة وغيرهما لمقاتلة الأميركيين. والعارفون اليوم بأحوال الجبهة يصرحون بأن قادتها الأساسيين متعددو الجنسية ولكن للسوريين الغلبة في كوادرها. من هنا، لا تعدم واشنطن حجة في رفضها تسليح المعارضة. فبعيداً من السياسة والاعتبارات الدولية والعلاقات المتشابكة مع روسيا، لا يمكن أي إدارة أميركية أن تجازف بقرار يفضي إلى تسليح المعارضة أو حتى «الجيش الحر» إذا كان بعض كتائب هذا الجيش ينسق ويتعامل مع «النصرة». مثل هذا القرار يشكل ببساطة مخالفة قانونية وسياسية قاتلة. وإذا كانت القمة العربية في الدوحة وفرت الشرعية المطلوبة لتسليح الفصائل المقاتلة على الأرض، فإن على المعارضة السياسية والعسكرية ألا تتوقف طويلاً أمام وقع مفاجأة «النصرة» وتوقيتها المشبوه. عليها أن تخرج سريعاً من الإحراج الذي تسببت به. عليها أن تبادر بإعادة تموضع واضحة لا لبس فيها بعيداً من «القاعدة». ربما المطلوب منها أن تعيد النظر في تركيبة «الائتلاف» فلا يظل تحت طغيان القوى الإسلامية كما ترى الولاياتالمتحدة وشركاؤها الأوروبيون... وإلا انبعثت مجدداً النغمة القديمة التي تذرع بها «أصدقاء سورية» منذ قيام «المجلس الوطني» ثم «الائتلاف». والمطلوب بالتوازي توحيد كل فصائل «الجيش الحر» وكتائبه تحت قيادة واحدة ليكون العتاد لهذه القيادة وليس لفصائل محددة تنضوي تحت راية هذه القوة أو تلك من قوى «الائتلاف». القنبلة التي أطلقتها «جبهة النصرة» ستعيد ملف تسليح «الجيش الحر» أو كتائبه «المعتدلة» إلى نقطة الصفر، بمقدار ما قد تجر إلى معارك جانبية، خصوصاً أن قوى عربية لن تتأخر في مد بعض الكتائب بما يناسب من عتاد وأسلحة. فلا الأردن سيكون مرتاحاً إلى مرابطة «الجهاديين» على حدوده، ولا إسرائيل ستطمئن إلى حلولهم محل الجيش النظامي على الجانب الآخر من الجولان. وهذا ما يفسر اشتعال معظم محاور المواجهة في محافظات درعا وغيرها من محافظات الجنوب السوري. بل قد تدفع الأيام المقبلة بالطائرات من دون طيار إلى التعامل مع هؤلاء «الجهاديين»، أسوة بما يحدث في اليمن وباكستان وأفغانستان وغيرها! قنبلة «النصرة» تضع أمام الباحثين عن ترتيب «اليوم التالي» لسقوط بشار الأسد والخائفين من هذا الاستحقاق ملفاً إضافياً يعرقل التقدم نحو إجماع على توفير مخرج لرحيله. ويعزز مخاوف المترددين. ولو قدمت الجبهة إعلانها أياماً لما كان الرئيس الروسي فلاديمر بوتين ربما اقترح مبادرة لوقف توريد السلاح إلى كل الأطراف المتصارعين في سورية! كان ملف الأسلحة الكيماوية ولا يزال الدافع الأساس للتفاهم الأميركي - الروسي. وكان بالتأكيد الدافع الأول وراء إعادة الحرارة إلى العلاقات بين تل أبيب وأنقرة. وقد عزا معظم الدوائر الديبلوماسية والإعلامية والسياسية الإسرائيلة قرار بنيامين نتانياهو بالاعتذار إلى رجب طيب أردوغان عن «موقعة مرمرة» إلى القلق من مستقبل هذه الأسلحة. ولم يفت وزراء خارجية دول مجموعة الثماني في اجتماعهم الأخير في لندن تجديد التحذير من أن استخدام الأسلحة الكيماوية «سيستوجب رداً دولياً حازماً». وشددوا على وجوب حماية مواقع تخزين هذه الأسلحة. كان «الائتلاف» لأسابيع مضت يعول على تسليح عربي وفرنسي - بريطاني من أجل تغيير موازين القوى على الأرض، وبات عليه اليوم أن يعمل سريعاً للحد من تداعيات التفجير السياسي الذي أحدثته «النصرة»، بعد تفجيراتها الدموية. فالمتمسكون بالحل السياسي أو بالأحرى بتنفيذ خطة جنيف وبقاء الأخضر الإبراهيمي، وعلى رأسهم موسكووواشنطن، سيزدادون تمسكاً بدعوتهم إلى قيام حكومة انتقالية تمهد لخروج الأسد بعد الحفاظ على هياكل الدولة وطمأنة كل مكونات المجتمع. ويطرح هذا تحدياً أمام المعارضة وربما دفع ببعض مكوناتها إلى إعادة البحث في مبادرة للحوار مماثلة لما طرحه معاذ الخطيب، صاحب الاستقالة المعلقة إلى حين، من أجل إحراج النظام الذي لم يبدِ حتى الآن أي استعداد لمثل هذا الحوار، لأنه ببساطة راهن ويراهن على مصير الملف الكيماوي واليوم على ملف «القاعدة»، فضلاً عن الغطاء الذي يوفره شعار حماية الأقليات، وعلى رأسها الطائفة العلوية. لا شك في أن المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، كان وضعها قبل سنة أفضل مما هو عليه اليوم. لذلك، لا بد لها من إعادة النظر في حساباتها تمهيداً لاسترتيجية جديدة لا تقوم على رهان بلا جدوى على تبدل في موقف روسيا التي لن تبدل ولن تغير. ولا تقوم على تبدل في موقف إيران، بالتعويل على «انعطافة» لحليفها اللبناني وانخراطه في الإجماع على تكليف شخصية من صفوف 14 آذار تشكيل حكومة جديدة. هذه المهادنة في بيروت فرضتها ظروف وتوازنات داخلية لبنانية. مثلما فرضها ارتفاع حرارة معركة الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية وحاجة مرشدها وقيادتها إلى التركيز على هذه المعركة لإعادة رصّ الصفوف خلف النظام و «الثورة»، بعد التصدعات التي خلفتها النجادية منذ انتخابات 2009 وما سبقها وما أعقبها. ولا شك في أن الجرعة التي قدمتها «النصرة» إلى النظام وجميع المتمسكين بالحل السياسي وخطة جنيف، ستفاقم التحدي القائم بين المعارضين في الخارج وأولئك الذين في الداخل. سيكون على هؤلاء بعد اليوم مواجهة الأمر الواقع الذي ستفرضه عليهم الجبهة، فإما الانضواء تحت راية إداراتها وإلا البحث عن سبل اتقائها وربما اتقاء صراعاتها مع باقي الفصائل المسلحة. كأن السوريين لا تكفيهم آلة النظام وهم يشاهدون مدنهم وقراهم ودساكرهم تتحول ركاماً، وينغمسون أكثر وأكثر في مستنقع الحرب المذهبية. ألم يشاهدوا ما فعل أصحاب الزرقاوي في العراق منتصف العقد الماضي؟ مهمة «الائتلاف»، مثلما هي مهمة «أصدقاء» سورية، ألا يدفعوا أهل الداخل إلى اليأس... فالاستسلام للنظام أو أهل «النصرة».