عام 2007 برر ممثل الجامعة العربية في بغداد مختار لماني انسحابه من المهمة الموكلة إليه (يرفض تسمية ذلك استقالة) في رسالة مشهورة تفضح ضعف الجامعة ولا جدواها. وصف الوضع العراقي داخلياً وعلاقته بالخارج. وأسف لعدم استطاعته فعل شيء من أجل «مهد الحضارات». لاحظ لماني أن محنة العراقيين «تتلخص في محاولة تدمير تماسك الفسيفساء الجميلة التي تؤثر فيها عوامل متعددة، داخلية وإقليمية ودولية. ولكل عامل من هذه العوامل تعقيداته، ويزداد تعقيدها بتفاعل بعضها مع بعض». ولاحظ أيضاً عدم الثقة بين المكونات الطائفية والمذهبية والإثنية، وغياب الرؤيا الوطنية التي تتيح للعراقيين العمل معاً لإنقاذ أنفسهم وبلادهم. قال لماني إن الجوار العراقي معقد أيضاً، فضلاً عن أنه منطقة «نفوذ ذات أولوية اقتصادية للعالم». فيه تتقاطع «اهتمامات الجوار والقوى الكبرى ومصالحها وتتضارب» وتتداخل. و «الاتجاه الذي أراه من الداخل هو المزيد من استعمال العراق ميداناً لعدد من المعارك ولأطراف عدة تضم دولاً ومنظمات وحركات». وسجل عدم وجود «أي رؤيا عربية متماسكة وجادة في معالجة الموضوع، بل انعدام الوعي بضرورة هذه الرؤيا بأبعادها السياسية والأمنية، وإعادة البناء والاكتفاء لدى البعض أحياناً بالانجرار إلى مواقف ترقيعية من منطلقات ضيقة لا تضع بالأساس ولا بالضرورة المصلحة العليا للشعب العراقي». فور اختياره مندوباً للأمم المتحدة والجامعة العربية، اختار الأخضر الإبراهيمي لماني مساعداً له. ومثلما فعل الديبلوماسي المغربي في بغداد، حيث أقام خارج المنطقة الخضراء المحصنة واتصل بكل الأطراف العراقيين ليكون على اطلاع مباشر على الحدث، أقام في دمشق وهو يتصل بكل الأفرقاء لتكوين صورة واضحة عما يحصل. لكن لا الأممالمتحدة ولا الجامعة العربية تعيره اهتمامها. المنظمة الدولية منقسمة على نفسها بين داع إلى تدخل عسكري «لإنقاذ الشعب السوري وتحريره من الأسد»، مثلما أنقذ الشعب العراقي وتحريره من صدام حسين، ومعارض لأي تدخل. أما الجامعة العربية فمنحازة إلى التدخل، ولا ترى «أي بارقة أمل في نجاح مهمة الإبراهيمي»، على ما قال أمينها العام نبيل العربي. وما زالت مصرة على استصدار قرار من مجلس الأمن تحت الفصل السابع يتيح التدخل العسكري، مرة بذريعة «حماية المدنيين» ومرة بذريعة «وقف المجازر التي يرتكبها النظام». الواقع أن الوضع السوري لا يختلف كثيراً عن الوضع العراقي. سورية أيضاً مهد الحضارة، ودمشق أقدم عاصمة مستمرة في الوجود. الشعب السوري فسيفساء عرقية وطائفية ومذهبية. في جواره التركيبة الفسيفسائية ذاتها. المصالح الدولية والإقليمية متداخلة ومتضاربة. المعارضة المسلحة مرتبطة بمصادر الدعم العسكري والتمويل أكثر من ارتباطها بمصالح الشعب، فقد شكلت خلال السنتين الماضيتين دورة اقتصادية وسياسية ومصلحية متكاملة بالارتباط مع الخارج، على تعدده وتضارب مصالحه وتلاقيها فأصبح بديلاً للدولة. أما المعارضة غير المسلحة فلا النظام يسمعها ولا «الائتلاف» يستشيرها، لا مكان لصوت العقل والتفكير الحر وسط دوي المدافع. الكل من الولاياتالمتحدة إلى الديار العربية يعرف أن الحرب في سورية أصبحت عبثية. لا النظام قادر على الحسم، ولا المسلحون قادرون على إطاحته. وحتى إذا أطاحوه سيبدأ الصراع بين فصائلهم ومرجعياتهم الخارجية ويستكملون تدمير ما بقي من الدولة والعمران. ولن تكون هناك سورية، على ما قال رئيس الاستخبارات القومية الأميركية جيمس كابلر في شهادته أمام الكونغرس قبل أيام. كتاب «استقالة» لماني من مهمته في العراق يؤكد فهمه العميق لبلاد الرافدين وتعقيدات الوضع في كل الشرق الأوسط. تصرف في بغداد كأنه واحد من أهلها الغيورين على مصلحتها أكثر من غيرة السياسيين والمقاتلين والطامحين إلى الحكم. كتب أن الشعب «الذي وجدته في العراق مهدد في عمقه وجائع وغير آمن». الشعب السوري «مهدد وجائع وغير آمن»، والجامعة العربية التي قصرت في بلاد الرافدين انخرطت في الحرب السورية، على غير عادتها، فهل يقدم لماني شهادة أخرى للتاريخ يشرح فيها هذه الإندفاعة وتواطؤ الخارج واستهتار المعارضة والنظام وينسحب، أم أن ارتباطه بالإبراهيمي الذي تخفف من العباءة العربية سيؤجل هذه الشهادة؟.