كان الاقتصاد الياباني ينمو خلال ستينات القرن الماضي بنحو 10 في المئة سنوياً، وهي نسبة عالية جداً، فكل ما ينمو بنسبة 10 في المئة سنوياً يتضاعف بعد كل سبعة أعوام وشهرين. وخلال السبعينات وأوائل الثمانينات نما الاقتصاد الياباني بنسب تراوحت ما بين 5 في المئة و4 في المئة، وهي نسب جيدة جداً، حتى صار الاقتصاد الياباني ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلال الفترة بين 1978 و2010، حينما حل الاقتصاد الصيني محله كثاني أكبر اقتصاد في العالم، وأطل شبح الركود على بلد تعود على النمو السريع والازدهار المستمر. فماذا حصل؟ بإيجاز، ارتفعت أسعار الأسهم وأثمان العقار إلى الحد اللامعقول، بحيث تحولت أسواق المال وأسواق العقار من أسواق استثمارية لتوسيع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الكلي إلى أسواق جشع ومضاربات، فانهارت «البورصة» اليابانية، وأدى انهيارها إلى جفاف قنوات التمويل والاستثمار. ففي نهاية العام 1985 وصل مؤشر سوق المال الياباني الأهم «نيكاي Nikkei» إلى أقل من 13 ألفاً بقليل، وتابع ارتفاعه بسرعة حتى وصل خلال أربعة أعوام فقط إلى نحو 40 ألفاً، أي تضاعف أكثر من 3 مرات في فترة قصيرة. انفجرت «الفقاعة»، وبدأت رحلة الهبوط بسرعة. وخلال عامين ونصف العام (من 12-1989 إلى 6-1992) وصل «نيكاي» إلى نحو 8 آلاف بعد أن كان قبل فترة وجيزة نسبياً وصل إلى نحو 40 ألفاً. هب أن شخصاً أو منشأة اقتصادية استثمرت 100 ألف وبعد 30 شهراً لم يبق لها منها إلا 20 ألفاً! يخطئ كل من يظن أن الكوارث المالية البحتة لا يصيب أذاها جميع القطاعات الاقتصادية الأخرى التي تنتج السلع والخدمات، فبعد انفجار فقاعة «البورصة» وأسواق العقار، هبطت نسبة النمو الاقتصادي الياباني إلى نحو واحد ونصف الواحد في المئة في المتوسط خلال التسعينات، وهذا أدى إلى بروز مصطلح «العقد المفقود»، أي فترة ال10 أعوام التي كانت خلالها نسبة النمو الاقتصادي في اليابان أقل من أي بلد صناعي آخر. ويعتقد نفرٌ من الاقتصاديين المؤثرين أن الحكومات اليابانية المتعددة التي حكمت خلال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي ارتكبت خطأين مختلفين: الأول بضخ كميات متزايدة من السيولة في النصف الثاني من الثمانينات ما أدى إلى انخفاض تكاليف الاقتراض. والسيولة تشبه سيول الأمطار إذا زادت عن حدها المعتاد فلا بد أن تفيض لأماكن أخرى. والأماكن الأخرى لكميات السيولة المتدفقة كانت شراء الأسهم والعقار عن طريق الاقتراض بتكاليف متدنية، فطارت أسعار الأسهم وأثمان العقار إلى فوق ما يمكن تبريره على أسس اقتصادية. وكل ما يصعد بسرعة عادة يهبط بسرعة أكبر. والخطأ الجسيم الآخر، أنه عندما انهارت أسعار الأسهم والعقارات بتلك النسب الفلكية كان ينبغي على الحكومة التدخل بشراء أسهم الشركات الصناعية الكبرى والأراضي التجارية والاحتفاظ بها موقتاً ثم بيعها تدريجياً حينما تكون الظروف الاقتصادية مواتية للبيع، وتوفير السيولة بفوائد رمزية للمنشآت التي وجدت فجأة أن قيمة ما لديها من موجودات أقل من مبلغ ما عليها من ديون. ولكن لم يحدث شيء ذو بال حتى تجرأ البنك المركزي الياباني، وتحديداً في يوم الخميس 4-4-2013 على ضخ ما يساوي 4.1 تريليون دولار من «الينّات» اليابانية إلى داخل الاقتصاد الياباني عن طريق شراء سندات قروض الديون الحكومية والخاصة ودفع قيمتها نقداً بطبع المبالغ المطلوبة من العملة «الين». وزيادة «كتلة» النقد المتداولة رفعت مستوى ثقة المستثمرين، فارتفع مؤشر البورصة اليابانية إلى نحو 500.13 في وقت كتابة هذا الموضوع، وهو أعلى مستوى وصل إليه خلال الخمسة أعوام الماضية تقريباً. نعم، لكل بلد ظروفه، ولكن من شبه المتفق عليه بين المتابعين المؤهلين من خارج اليابان أن السياسة الاقتصادية التي اتبعتها السلطات اليابانية المتخصصة ضلت الطريق الذي تحاول كل دولة متقدمة تحقيقه، وهو تحقيق أكبر نسبة نمو ممكنة مع الحفاظ على استقرار الأسعار، فارتفعت نسبة نمو السيولة بدرجة كبيرة ابتداءً من أواخر الثمانينات، فسبب ارتفاعها «فقاعة» سرعان ما انفجرت، ثم توانت السلطات المتخصصة في التسعينات، فلم تتدخل بشراء أسهم وسندات منشآت اقتصادية كبيرة مؤثرة والاحتفاظ بها موقتاً فتوفر لها السيولة المطلوبة، فتدني التدفقات النقدية كثيراً ما يكون من أهم أسباب تدهور المنشآت التجارية كبيرها وصغيرها. كانت السلطات اليابانية تخشى ما حدث في أواخر الثمانينات، فترددت وأحجمت، ففقدت اليابان عِقداً من النمو الذي كانت قادرة على تحقيقه. * أكاديمي سعودي