الجلسات السريرية في عيادة الطبيب النفسي الكندي مع صحافيين غطوا الحرب في العراق والبوسنة كشفت مقدار الألم الذي تتركه التجربة في أرواحهم إلى درجة دعت بعضهم إلى طرح سؤال عن جدوى عملهم وهل تستحق الصورة أو اللقطة التلفزيونية المأخذوة من ساحات العنف المنفلت وجبهات الحروب اليومية، كل هذا العذاب والشقاء النفسي والجسدي الذي يعانون منه بسببها؟ السؤال حمله معدو البرنامج التلفزيوني الكندي «صحافيون في الحروب» إلى مجموعة من صحافيين خاضوا تجارب مماثلة وبعضهم خضع لعلاج نفسي طويل ليعرفوا الآثار التي تركتها مشاهداتهم لفظاعات الحروب والصراعات الدموية على طريقة تفكيرهم وكيف صاروا يرون العالم بعدها... وهل بقوا، كبشر، أسوياء كما كانوا عليه قبل دخولهم متون الجحيم؟ اغتراب... مُعذب كلمات الصحافي البريطاني فينبار أورلي في وصف حالته بعد عودته من تغطية أحداث ليبيا تختصر عزلة الكائن في العالم السوي. «لم آلف وجودي بين الناس العاديين وهم يتحركون بعفوية في شوارع لندن. شعرت بنفسي غريباً وموزعاً بين أنا المنتمي إلى هذا المكان وذاك الذي عاد لتوه من مكان آخر وكان جزءاً من صراع مخيف». ليس وحده مراسل «رويترز» بل الكثير من الذين غطوا الأحداث الملتهبة أدركوا بعد عودتهم الى ديارهم حجم التأثير الذي تركته عليهم التجربة وظلوا يعانون طويلاً من حالة ما يطلق على تسميتها طبياً «اضطراب التوتر ما بعد الصدمة»، وأكثر أعراضها الشعور بالكآبة وتأنيب الضمير والميل للعزلة وما ينتج عنها من مشاكل اجتماعية أول مظاهرها المحسوسة الطلاق وأحياناً الإدمان وبخاصة على المخدرات. والحقيقة المثبتة أن معاناة الصحافي في الحرب تشبه تماماً معاناة المشاركين فيها، إلى درجة يطرح فيها السؤال نفسه: لماذا إذاً كل هذا الإصرار على مواصلة مهنة المتاعب؟ أكثر التناقضات ظهرت بين الصحافيين حين حاولوا الإجابة عن هذا السؤال كونه يمسّ جوهر العلاقة بينهم وبين مهنتهم التي يحيل بعضهم مشاكلهم فيها إلى طبيعتها بصفتها تعرض المشتغلين فيها إلى أخطار محتملة حالها حال وظيفة المسعف الطبي في الحرب. ولا يتجاوز الأمر أحياناً التأقلم العادي مع الوظيفة. فغالبية المراسلين تحصن نفسها دوماً بفكرة أنها ستذهب لإنجاز عملها وتعود سالمة، وقلة تجد فيه نوعاً من «المرجلة» ورغبة في خوض المغامرة، لكنهم وبالإجماع يعترفون بتبخر كل تلك التصورات لحظة المواجهة الحقيقية مع الموت لأنه وعندها فقط سيتغلب الخوف على ما عداه، وتجربة الصحافية كريستينا لامب من «صانداي تايمز» في تغطية إحدى معارك الجيش الأميركي في جبال هلماند الأفغانية تحيط الموضوع من جانبين: الأول يتعلق بالخوف من الموت والثاني في اختيارها لمهنة خطرة وهي أم لطفل في السادسة من العمر. فالمراسلة تحكي للبرنامج كيف وجدت نفسها محاصرة من قوات «طالبان» والجنود يموتون إلى جوارها ما دفعها إلى التفكير بعيد ميلاد ابنها القريب كنوع من التحصن الداخلي في مواجهة الخوف من الموت المجسد أمامها. أما لماذا اختارت العمل الخطير وهي أم لطفل فكان جوابها بسؤال آخر: لماذا يذهب الصحافي الأب لتغطية الحروب، وهل هذا يعني أنه أقل مسؤولية من الأم نفسها، أم إنه اعتراف ضمني بأفضلية الرجل في عمل فيه الاحتكاكات الجسدية كثيرة؟ وهنا تصف تجربتها أثناء تغطيتها ثورة يناير في مصر معترفة بأن الرجال «شطر» في استخدام أكواعهم لدفع الأشخاص الواقفين أمامهم في حين يصعب على المرأة تطبيق الفعل ذاته، لهذا راعت في عملها ارتداء ملابس مناسبة واحترام الثقافة المحلية التي تعمل وسطها لتسهّل على نفسها عملية «دفع» المحيطين بها بعيداً. شعور بالذنب أكثر ما يوجع الصحافي في الحروب فقدان زميل له رافقه التجربة في كل تفاصيلها، ثم فجأة يجده بعيداً منه مختطفاً أو ميتاً. حينها يزداد شعوره بالذنب ويلحّ السؤال في الرأس: لماذا مات هو وبقيت أنا؟ أكثر تجارب المراسلين الحربيين قسوة سجلها البرنامج خلال مقابلاتهم أو مراجعاتهم للأطباء النفسيين والتي بيَّنت مقدار الشعور بالخزي والندم الذي يصاحبهم لأنهم لم يموتوا كرفاقهم، كما نقلها مراسل «بي بي سي» في جنوب لبنان خلال حرب 2006 حين ترك مصوره ينتظر في السيارة ليحدد هو موقع التصوير وحين عاد وجد السيارة تحترق والمصور في داخلها. لم ينسَ جيرمي باون ما حدث وكل ما يقال عن أهمية نقل الحقيقة إلى العالم لن يغير حقيقة شعوره بالإثم والندم حاله حال كثر ممن عَزوا أنفسهم بالقول إن العمل الصحافي هو نوع من الإدمان ولا بد من التعايش معه وتذكير الناس بما قاله تيم هيثرنغتون السينمائي والصحافي الذي قتل في ليبيا: «نريد أخذ الحرب إلى بيوت الناس». ولكن، هل يستحق هذا الفعل كل هذه الخسائر التي يجسدها جدار متحف «ذي نيوزيوم» في واشنطن حيث صور الصحافيين المفقودين في الحروب معلقة كشاهد على خطورة مهنة لا غنى لنا عنها، رغم غلاء أثمانها؟