عندما وقف المستشار الألماني بيسمارك، في مجلس النواب ذات يوم ليصرخ أمام أعضاء ذلك المجلس «الرايخستاغ» طالباً منهم أن يكفّوا عن التهجم على الشاعر هينريش هايني، قال بصوت مدوّ وهو يعرف ما لصوته من تأثير، وما لمكانته من أهمية، هو موحّد ألمانيا وبطلها في ذلك الزمان: «لا تنسوا أيها السادة أنه هو، من بعد غوته، كان مؤلف أجمل الأغاني التي كتبت باللغة الألمانية». وأعضاء «الريخستاغ» الذين كانوا يحاولون النيل من هايني في ذلك الحين كانوا، في الحقيقة، يعبّرون عن رأي عام، يرى في ذلك الشاعر عدواً لألمانيا ومحباً لفرنسا. وكانت حجتهم في استنتاجهم ذاك، كتب هايني الكثيرة، خصوصاً قصيدته «عن ألمانيا، حكاية شتاء»، تلك القصيدة التي كتبها أصلاً في باريس، ليرد بها على «سذاجة» مدام دي ستايل، التي كانت اعتادت أن تكتب عن ألمانيا المجاورة كتابات تقطر ماء الورد، ولا تنتمي إلى الحقيقة بصلة. عندما كتب هايني «عن ألمانيا، حكاية شتاء» Deutshland ein Wintermarchen، كان يعيش، إذاً، في فرنسا، تلك التي اختارها وطناً له، وأَسْأَمه أن يواصل حياته في بلده الأصلي، ألمانيا، حيث يسود التعصب وشتى النزعات القومية، ويغيب الفكر والعقلانية. وكان أشد ما يسئمه في ذلك أن البلد الذي يصل في التعصب القومي والوطني إلى «هذا الدرك الأسفل» كان هو هو وطن العقلانية وكانط وهيغل، البلد الذي أعاد إلى الفكر والفلسفة، مكانة كانت مفتقدة عملياً في أوروبا منذ خبا العصر الإغريقي. والحال أن هايني يبدو هنا وكأنه كان يحدس باللاعقلانية وضروب الشر التي ستتجلى في وطنه الألماني بعد زمن طويل من زمنه. أي في الزمن الذي تحوّلت العقلانية الألمانية إلى شبح غائب أمام استشراء النازية ونزعتها القومية الكأداء، ما أدى إلى ظهور هتلر وبالتالي إلى الكارثة التي أصابت العالم وأصابت ألمانيا نفسها نتيجة ذلك، بيد أن تلك حكاية أخرى لن تعنينا أكثر من هذا، في السياق الذي نتناوله طبعاً. في الأصل كان هايني شاعراً وكاتباً رومانسياً، بل إنه لقب ب «آخر الرومانسيين» خلال الحقبة الأكثر ازدهاراً من حياته ومساره الإبداعي، غير أن رومانسيته لم تكن لتمنعه من أن ينظر إلى الأمور مواجهة، وأن تكون له آراؤه السياسية المنفتحة على آفاق العالم والفكر الإنساني، دأبه في ذلك دأب كبار المبدعين الألمان في حقبة من الزمن كانت الأفكار الفلسفية الإنسانية تتجلى فيها وتزدهر... عندما كتب هايني «عن ألمانيا» كان لا يزال متحمساً، بل إن سنواته الطويلة التي كان أمضاها في فرنسا، كانت أيقظت لديه ذلك الحنين الذي يمكن أن نتلمسه في معظم المقاطع الأولى من ذلك العمل الشعري الطويل. فهذا العمل، الذي شاء هايني من خلاله أن يرسم لوحة عاطفية وحسية لشجرة العائلة الألمانية منذ العصور الوسطى وصولاً إلى هيغل، كرد على كتاب مدام دي ستايل «عن ألمانيا»، الذي لم يتعامل معه إلا بمقدار كبير من الهزء والتهكم، هذا العمل الذي نشر للمرة الأولى في عام 1844 مع «قصائد جديدة»، ثم أعاد المؤلف نشره عام 1851 مع مقدمة شرح فيها أنه لكي يتمكن من نشره في ألمانيا اضطر إلى إجراء الكثير من التعديلات فيه، لكيلا يمعن الألمان في اتهامه بمعاداتهم، يتألف من نصوص شعرية، تصف عودة الشاعر إلى وطنه ألمانيا بعد غياب 13 عاماً قضاها في المنفى، فإذا بالحنين يختلط مع الذكريات، وإذا بأرض الوطن تصبح أرض المعرفة. في اللحظات الأولى من القصيدة الطويلة هذه، يشتد الحنين ويروح الشاعر واصفاً روح ألمانيا «الحقيقية» في رأيه: روح التوق إلى المعرفة، والعقل، ويصف الطبيعة وجمالها وما يتوقعه من الإنسان إذ ينسى كل أنواع التعصب. إن هايني يشرح هنا بكل بساطة وحب، موقفه الحقيقي من ألمانيا وفكرها وأهلها من دون أن تلوح في كتاباته نزعة التعصب الشوفينية كما هي ماثلة لدى أبناء قومه، ولا حتى النزعة الشمولية والسياسية - الغيبية، كما تلوح لدى مواطنه الشاعر الرومانسي غوريش. إن مشاعر هايني هنا هادئة: وإن ألمانيا التي يصفها ويتوق للعودة إليها، ألمانيا التي يحلم بها في ليالي الشتاء الباردة، ويريد أن يفسرها للعالم. وأن يبرر حتى مساوئها، هي ألمانيا «الحقيقية» التي، في رأيه تجمع بين الروح الجرمانية الأصيلة، والوعي العقلاني التنويري الأوروبي، كما تجلى في فكر الثورة الفرنسية كما في فكر كبار التنويريين الألمان الذين نظروا إلى تلك الثورة بعين العقل، لا سيما قبل كارثة عام 1813 التي بدلت ذلك كله، وأدت إلى نمو شوفينية ألمانية كريهة، ضد فرنسا والفرنسيين، وضد الفكر الفرنسي خصوصاً. كل هذه المشاعر تتنازع الشاعر وهو متوجه في طريق العودة إلى وطنه. وأمله، يبدو طوال الرحلة كبيراً، في أن يجد هذا الوطن وقد اتسم بالمسوح المثالية التي يريدها له. والحال أن هذا القسم المبكر من هذا العمل الشعري الكبير يبدو الأكثر أهمية لأن هايني يرسم فيه من خلال حلم العودة المتجدد صورة للوطن الذي يريد... الوطن الجدير به، ما يضعنا هنا أمام ما يشبه المشروع الوطني الحقيقي الذي صاغه عقل مبدع يريد لوطنه أن يكون خير الأوطان من دون أن يكون على أي عداء مع الأوطان الأخرى. إن ألمانيا التي يصورها هايني في هذا الحلم، ليست في حقيقة أمرها ألمانيا خيلية، بل هي وطن منشود ممكن التحقق، ووطن يمكن أن تشع سيرته على ما حوله من أوطان في لعبة كوزموبوليتية إنسانية أحسن الشاعر صياغتها، جاعلاً من أنشودته برنامج عمل ليس فقط قابلاً للتحقق، بل كذلك، قيد التحقق. وكأننا هنا، في «حلم هايني» أمام ذلك الحلم الذي راود الأميركي الأسود مارتن لوثر كينغ يوماً، إنما في مجال مختلف... غير أن هذه الأحلام التي تراود شاعرنا الألماني وهو في طريق عودته إلى وطنه المرتجى، سرعان ما تتبخر، إذ ما إن تطأ قدما الشاعر أرض الوطن، بعد غيبته الطويلة، وما إن يجابه الحقيقة بعيداً من أحلامه وتصوراته المثالية، حتى تعود إليه - وبقوة أكثر - كراهيته لأبناء وطنه. فهم، لم يبقوا فقط على الجهل والعمى اللذين كانوا عليهما، بل زادت حدة هذين عندهم، وصاروا، كما يخبرنا في مقاطع تأتي هنا شديدة التشاؤم والسوداوية، أجهل وأعمى من ذي قبل، صاروا شوفينيين كارهين العقل والآخرين أكثر من أي وقت مضى. ويرى الشاعر هنا أن هذا سيكون وبالاً عليهم وعلى البشرية جمعاء أيضاً، ونعرف طبعاً أن التاريخ حقق لهايني نبوءته، هو الذي لم يغفر له الألمان ذلك التهكم عليهم أبداً. اليوم، يعتبر هينريش هايني من كبار الشعراء الألمان، ومن الكتّاب الاوروبيين الذين كتبوا نصوصاًَ مهمة، إبداعية وعلمية، بالألمانية، لغته الأم كما باللغة الفرنسية أيضاً. ولكن في حياته، كانت لعنة هايني كبيرة، وهو عرف الفشل في أمور كثيرة اشتغل بها، ما جعل الفشل يشكل سمة أساسية من سمات حياته وكتاباته. ومع ذلك نجده، كتب كثيراً، كتب شعراً وكتب للمسرح، وكتب في الفلسفة وفي السياسة. وكتب في تاريخ الفنون، وأناشيد (ليدر) لحنها كبار الموسيقيين الألمان، ومن بينهم شومان. كان يكتب بلا هوادة وكان يحزن ويحبط بلا هوادة. إنه في هذا كمرآة تعكس اضطراب أوروبا وقلقها في زمنه. ولد وهايني عام 1797 في دوسلدورف في ألمانيا، يوم كانت هذه المدينة خاضعة للسيطرة الفرنسية، ومات عام 1856 في باريس، بعد مرض أقعده ثمانية أعوام كانت الأكثر ضراوة وإيلاماً في حياته. وهو بدأ الكتابة باكراً، بعدما تشبعت روحه بالأساطير الجرمانية الشمالية، وراح ينهل من الآداب الفرنسية والإنكليزية، ووعى في شبابه على الفكر التنويري منتشراً، وعلى الرومانسية تعيش أزهى لحظاتها في زمن التغيرات الأوروبية الكبرى. [email protected]