في زمن الاضطراب العربي الكبير، يبحث عدد من الكتاب عن «نقطة البداية» لمشروع نهضة فكرية وثقافية عربية يأملون ان ترافق التغيير السياسي العميق الذي تشهده بلادنا. يحدد بعضهم مرجعيات في التراث العربي – الإسلامي، منها الديني ومنها الفلسفي او الأدبي. فيما يرى آخرون ان التراث قد استنفد اغراضه وجرى استيعابه وتجاوزه ضمن المدارس الفكرية الغربية الأجدر باتباعها والسير على خطاها. يذهب بعض ثالث الى الحل التوفيقي المعهود في مثل هذه الحالات، بالدعوة الى الأخذ من الغرب ما يتوافق مع «قيمنا» و «حضارتنا» واستخدامه في انتاج المعرفة الخاصة ببيئتنا وظروفها. يبدو النقاش في كثير من الأحيان من دون سياق، ومن دون هدف واضح. ومنذ طرح سؤال «النهضة العربية» المركزي في القرن التاسع عشر «لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب؟» واقتراحات الاجابات تدور في حلقة مفرغة. هنا، تحضر «العقلانية» كوصفة جاهزة للخروج من مأزق الفكر السياسي العربي، من دون محدداتها ومقدماتها التاريخية، خصوصاً في النموذج الأوروبي الغربي والمسار المعقد للفلسفة السياسية الغربية وارتباطها بالصراعات الاجتماعية والاقتصادية ومراحل الانتقال من طور الى طور ومن نمط الى آخر. تُرمى اسماء من التراث كإبن رشد كأدلة على قدرة الفكر العربي – الإسلامي على استنباط الحلول من الثقافة الأصيلة. وبين حين وآخر، يظهر من يعلن ان العقلانية المفضية الى الديموقراطية هي السبيل الأمثل للخروج من التخلف العربي المتطاول. لكن نقصاً فادحاً يعتور الطرح المذكور. تفترض العقلانية حداً أدنى من النظر في ظروف المجتمعات العربية الحالية، في حاجاتها المادية والروحية، في آمالها وتطلعاتها وتواؤم الامكانات الواقعية مع الخطط الكبرى والأحلام الوردية. التجارب التي تمر بها تونس ومصر وليبيا واليمن، أي الدول التي قطعت خطوات ملموسة في التخلص من أنظمة الاستبداد، تقول ان الأمور في الواقع أكثر تعقيداً من الأفكار المجردة. وان وصول قوى الإسلام السياسي الى السلطة في مصر وتونس، على سبيل المثال، يوضح أن التاريخ يفضل السير في طرق متعرجة. وكأن لا مفر من وصول محمد مرسي الى رئاسة الجمهورية وكأن إمساك «حركة النهضة» التونسية بمفاصل السلطة، قدر لا بد منه. بيد أن هذه الحالات، ورغم كل الصخب الإعلامي الذي يرافقها، تشبه تماثيل ضخمة تقف على اقدام من صلصال. والمقاومة الشرسة التي يقابل بها المجتمعان المصري والتونسي مساعي فرض انماط سلوك وثقافة عليه، تقول ان الإسلام السياسي بطبعته الإخوانية، لم يحمل «الحل» الذي بشّر طويلاً به وان الخلل لا يُختزل بوجود «فلول» تعمل على التخريب على استواء «الإخوان» على تخوت السلطان، بل أن الأمر اعمق من ذلك وأبعد ويصل الى قصور النموذج الاخواني عن اقناع شرائح عريضة من المصريين والتونسيين، بقدرته على تمثيلهم وتحقيق مصالحهم والدفاع عن حقوقهم. في جميع الأحوال، ليس «الأخوان» غير صورة ل «الحزب الطليعي» في منظومة فكرية تحل فيها هوية المجتمع مكان المجتمع المتعدد. تعيد هذه الحقيقة الى «نقطة البداية» الضائعة في مشاريع الإصلاح. والحال ان «الثوابت» الحالية في الثقافة العربية، ومحاولات سبر البنى الاجتماعية العربية بأدوات الايديولوجيات التقليدية، لن تجدي شيئا. وليس من المفيد استبدال يقين ايديولوجي بآخر غيبي. وقد تكون الطريق طويلة نحو انتاج وعي ولغة وثقافة مطابقة لواقع المجتمعات العربية، لكن ما اوضحته الثورات العربية بما لا يدع مجالا للنقاش، هو ان حركة البشر تسبق حركة الفكر الذي يحملونه.