انتهك مشروع فرض ضرائب على ودائع الادخار القبرصية محظورات في ألمانيا. فقبل اربعة اعوام، التزمت المستشارة الالمانية ووزير ماليتها السابق، أمام الألمان عدم المس بادخاراتهم مؤكدة أنها في برّ الامان على رغم الازمة المالية وإفلاس مصرف «ليهمان براذرز». وأعلنت الحكومة الالمانية انها حريصة على ألا يخسر أي من مواطنيها «يورو» واحداً. والضمانة هذه سياسية وليست قضائية، لكنها وراء وضع ألمان كثر ثقتهم، منذ 2008، في سياسة انغيلا مركل الرامية الى جبه الازمتين المالية العالمية وأزمة اليورو. في 15 الشهر الجاري، أُطيحت هذه الضمانة. فأصحاب الودائع القبارصة قد يضطرون الى التنازل عن شطر من ادخاراتهم لإنقاذ اليورو. ولم يقتصر مشروع الاقتطاع هذا على المستثمرين الكبار والأثرياء الأجانب، بل شمل كذلك صغار المودعين. وعلى رغم ان مشكلات الجزيرة المتوسطية تبدو بالغة البعد عن ألمانيا، قطع قرار مجموعة اليورو مع السياسات السابقة. فهو منعطف ينتهك «الثوابت». وما لا شك فيه، ان فرض ضرائب على ودائع اصحاب الثروات الكبيرة من اجل انقاذ اليورو، في محله في دول مثل المملكة القبرصية للتهرب الضريبي والاموال «السوداء». ولكن يبدو ان منقذي اليورو في بروكسيل ضعيفو الصلة بالواقع الاوروبي، وعلى رغم ان الحكومة القبرصية تراجعت عن فرض الضرائب على صغار المودعين، إثر التظاهرات التي عمّت البلاد. فنخب بروكسيل لم تتوانَ في وقت أول عن وضع المدخرين الصغار في كفة واحدة مع كبار عالم المال. وهذا بالغ الدلالة: بلوغ سيرورة انقاذ اليورو طوراً جديداً. فمن جهة، اعلنت منطقة اليورو ان الحؤول دون انفراط عقد العملة الموحدة لن تموله بعد اليوم موازنات الدول الاعضاء. ورسخت، من جهة أخرى، ميل «المخلصين» الى إعفاء المستفيدين من ازمة اليورو من فك صررهم. والسياسة هذه تفاقم تقويض الثقة المهتزة باليورو. فقبرص ليست بلداً صغيراً على اطراف الاتحاد الاوروبي فحسب، بل هي حقل تجارب ترسو فيه السوابق. ولا يصدّق الاوروبيون المزاعم القائلة إن مصادرة بعض اموال زبائن المصارف القبرصية هي حالة تشذ عن القاعدة ولن تتكرر. ويساور اليونانيين والإيطاليين والاسبان القلق إزاء مصير مدخراتهم، وثقتهم بمستقبل اليورو تتآكل. والفصل الاخير من الازمة يعزز مواقف منتقدي اليورو والطاعنين في جدواه. ويخشى الالمان ان «يبتر» التضخم شيئاً فشيئاً مدخراتهم. وفي أوج الحملة الانتخابية التشريعية الالمانية المقبلة في 22 أيلول (سبتمبر)، اصابت شرارة الأزمة القبرصية المرشحة انغيلا مركل في الصميم. فمد الازمة الاوروبية وصل الى الداخل الالماني. ومشروع إنقاذ المصارف القبرصية يطرح على تصويت البوندستاغ (البرلمان الالماني) مطلع نيسان (ابريل) المقبل. وتوحي المؤشرات باحتمال إخفاق المستشارة في نيل الغالبية على المشروع. والطاعنون كثر في مشروع انقاذ اليورو في أوساط حزبي «الاتحاد المسيحي الديموقراطي» و «الديموقراطي الليبرالي» الشركاء في الائتلاف الحكومي. ولدى الاقتراع على خطة إنقاذ اليونان وإرساء أوالية الاستقرار الأوروبي، لم تفز مركل بغالبية الأصوات في معسكرها. ولكن وسعها التعويل على حس المسؤولية لدى المعارضة إزاء الدولة وأوروبا، وضمان دعمها. ولكن مع اقتراب الانتخابات المحلية، قد يغالي الحزب الاشتراكي الديموقراطي و «حزب الخضر» في التلويح بورقة اليورو تاركين المستشارة تواجه، عزلاء، المحافظين والليبراليين المناوئين للعملة الموحدة في معسكرها. ويبدو ان بروز «حزب البديل من اجل ألمانيا» اليميني يفاقم حصار مركل. وأبرز مشروع مساعدة قبرص، مكامن ضعف المرشحة مركل. ** أعلن وزير الدفاع الأميركي أخيراً، أن بلاده ستؤجل المرحلة الرابعة من عملية نشر الدرع الصاروخية في بولندا ورومانيا إلى 2020 أو 2022، وربما لن تنشرها يوماً. تبدل الولاياتالمتحدة خططها لمواكبة التغيرات على الساحتين الداخلية والدولية، فالموازنة الدفاعية قُلصت في وقت تقتضي المرحلةُ الرابعة التطويرَ والتحسين. والخطر البارز اليوم لا يأتي من إيران التي لم تكتمل بعد قدراتُها الباليستية- النووية، بل من كوريا الشمالية التي أنتجت صواريخ باليستية وأجرت عدداً من التجارب النووية، وعليه يُنقل جزء من الأموال المخصصة للدرع الصاروخية في أوروبا لتمويل نشر 14 منظومة في ألاسكا، تضاف إلى المنظومات الثلاثين المزروعة فيها وفي كاليفورنيا، لجبه الخطر الآتي من كوريا التي لا تنفك تهدد أميركا بهجوم نووي. وإلى منظومة الصواريخ هذه، سيُرفع عدد الصواريخ في اليابان وكوريا الجنوبية، وكذلك على السفن المتواجدة في المحيط الهادئ، لكن واشنطن طمأنت بولندا إلى أنها ستكمل المرحلة الثالثة من نشر الدرع على أراضيها. ويفترض أن تُثلِج هذه التطورات قلب موسكو التي تنتقد الدرع الصاروخية وتتحدث عن أخطارها، خصوصاً المرحلة الرابعة التي- وفق الكرملين- تعطّل قدرات الصواريخ الباليستية الروسية العابرة للقارات، والمحمّلة بالرؤوس النووية الموجهة نحو المدن الأميركية. لكن تصريحات وزارتي الدفاع والخارجية الروسيتين لم تَخْلُ من غلبةِ نبرة سلبية لا تُخفي خيبة، إذ اعتَبرت أن شيئاً لم يتغيّر حتى مع تعديل الخطط الأميركية، لأن المراحل الثلاث الأولى أُنجزت ولم يُلغَ أثرُها. ولا يمكن أن تذهب تحذيرات المسؤولين الروس في السنوات الأخيرة من أخطار الدرع الأميركية في أوروبا أدراجَ الرياح بمجرد أن واشنطن قررت تعديل خططها، فالتفريط ب «الخطر» الوهمي الذي تشكله الدرع يضع المسؤولين العسكريين الروس في موقف حرج ومخزٍ. ويدرك الخبراء أن زعْمَ تهديد الدرع الصاروخية الأميركية، سواء في أوروبا أو العالم، الترسانةَ الاستراتيجية الروسية يجافي الواقع، وأن وراء هذه المزاعم خوفاً من خسارة مبالغ هائلة مخصصة لصد الدرع الأميركية. فالركن الأساس للسياسة «العسكرية–القومية» البوتينية هو التلويح بالخطر الخارجي لتعبئة المجتمع الروسي، وما أشبه اليوم بالثمانينات، حين صُرِفت مبالغ خيالية لمواجهة مشروع «حرب النجوم» الريغاني. فاليومَ يتذرّع بوتين بمواجهة أخطار الدرع الأميركية لاستخدام التجهيزات التي تعود إلى عهد «حرب النجوم» في المصانع القديمة، والتي لم تعد قادرة على تحديث إنتاجها، أمّا الفارق بين الكلفة الفعلية لمشروع «التصدي» وبين الكلفة المعلنة، فيهرَّب إلى المصارف في الخاج. ولا فائدة ترتجى من مقارنة هذه العمليات بما آل اليه مشروع أولمبياد «سوتشي 2014» والأموال التي خصصت لاستضافة قمة «آسيان» في فلاديفوستوك. فلا يخفى أن البنية التحتية في هاتين المنطقتين على حالها من التآكل: جدران القاعات مشققة والطرقات مليئة بالحفر. أمّا تقديم بيّنات تدحض مزاعم الكرملين وتثبت أن أخطار الدرع غير واقعية، فيقتضي حرباً نووية لا ينجو منها أحد للتأكد من الأمر. ولسان حال المسؤولين الروس اليوم هو «اسرق، وتنعَّمْ بالأموال وهرِّبْها إلى الخارج وتَرَقَّ في السلَّم العسكري والمهني وجمِّعْ عدداً لا يحصى من الأوسمة والتقديرات بأسرع وقت ممكن، طالما أن الأميركيين موجودون وخطرهم داهم». ودرج جزءٌ من الجهاز الحكومي والعسكري على هذا الضرب من التجارة السياسية وتهريب الأموال، في الوقت الذي يحاول الأميركيون القضاء عليه، لذا حريٌّ بهم ألاّ ينتظروا اليوم الشكرَ أو الامتنان. ولا يبدو أن الكرملين يشغله اليوم تشاك هاغل (وزير الدفاع الأميركي) أو الدرع الأميركية، في وقت يتملكه الهلع إزاء أزمة الودائع في قبرص. فالظاهر أن الجنّة المصرفية القبرصية ستغلَق أمام الروس إلى الأبد. مشكلة الطبقة الروسية الحاكمة اليوم مدارُها العثور على مكان لتهريب ملايين، بل بلايين الدولارات من المشاريع المنهوبة. وأثبتت أزمة قبرص أن لا مسوِّغ لدرع صاروخية «لتطويع» روسيا، إذ يكفي أن تجمَّد بضعة حسابات روسية في الخارج لتهتز موسكو، أمّا الدرع، فهي لجبه خطر دول مثل إيران وكوريا الشمالية، ولن تصبح روسيا في عداد تلك الدول قبل أن تبذل جهداً أكبر. * محلّل، عن «سيسيرو» الالمانية، 3/2013، إعداد منال نحاس ** محلّل عسكري روسي، عن «نوفايا غازييتا» الروسية، 20/3/2013، إعداد علي شرف الدين